• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زواج كما أريد له - 19-

    لمّا همّ حامد بالنّزول للبئرو كان أبي قد أمسك بالحبل رغم أنه ربط طرفه بالسلّم الحديدي المثبّت بالحائط الحجري للبئر، صاح أبي متوجّها الى حامد الذي وضع ساقه على الدرجة الأولى من السلّم : حامد ، هل تحسن السباحة ؟ التفت حامد قائلا : لا...أنا لا أجيد السباحة لكن ها قد ربطتني بالحبل فلا خوف من جهلي السباحة وهمّ بالدرجة الثانية من السلّم وهنا أمسك أبي بجمّازة حامد و قال له: إنتظر ، إنتظر لن تنزل إلى البئر ، فماذا ستفعل لو وجدتها و أنت لا تحسن السباحة ؟؟ دعني أنزل عوضا عنك فأنا أجيد السباحة .
    نعم أنا أعرف جيّدا أن أبي يجيد العوم و هو سبّاح ماهر و هو الذي علّمني و علّم كل إخوتي الذكور قواعد و طرق السّباحة ، فقد تدربنا في مجاري الوادي المحاذي لبيتنا و هي مجاري عميقة تتجاوز الثلاثة أو الأربعة أمتار عمقا و التي يتحول عمقها بعد كل فيضان للوادي فهذا الواد يجمع الكثير من المجاري الفرعية المائية المنحدرة من جبال مكثر و مصّوج بسليانة و بالتالي يكون فيضانه رهيبا و عنيفا و قاتل عند نزول الأمطار في فصليْ الخريف و الشتاء و قد يكون فيضانه مفاجئا عندما تنزل المطر في مكان لانعلمه بجهات مكثر أو مصّوج البعيدة نسبيا عناّ و على إحدى مجاريه الفرعية و كانت مياه الوادي عذبة و صافية و غير ملوّثة وهي مصدر ريّ البساتين المجانبة لضفّتيه علاوة على العيون المائية التي تنبع من جانبيه و التي كانت صالحة للشرب و باردة صيفا بما جعلها مقصدا للشرب من طرف عمّال الفلاحة و الرّعاة و عابري السبيل. لقد علّمنا أبي السباحة لخوفه الشديد من فيضانات الوادي المفاجئة و الغير المنتظرة ولأنّ الواد يقطع طريقنا نحو المدرسة ولا توجد به قنطرة للعبور فنضطرّ لقطع الوادي حفاة أو على ظهور الدواب كالحمير و البغال و الخيول و كان خوفه من أن نغرق في فيضان مفاجئ دفعه لتعليمنا و الإشراف علينا عند دروس السباحة الصّيفية وكان يضطرّ في بعض الأحيان الى خلع ملابسه و السباحة معنا لتعليمنا كيفية التعامل مع التيّارات المائية العنيفة و قيعان المجاري سواء الرمليّة و التي ليست بالخطيرة أو القيعان ذات الأوحال الترابية و التي تكون فيها السباحة خطيرة جدّا لأن الأوحال الترابية قد تسبّب الغرق حتّى لمن يحسن السباحة و عليه كان أبي يأمرنا بأن لا نسبح وحيدين بمجاري الوادي و كانت مخالفة تعليماته تعني عقابا شديدا من طرفه.
    ربط أبي الحبل بحزامه كاحتياط لأنّ ماء البئر عميقة رغم أنّه يكاد أن يكون سطحيا ثم نزع ثيابه العلوية و بقي بسرواله فقط و قــال لحامـد : إن صادف و بقيت أكثر من اللآزم تحت الماء فعليك بجذب الحبل حتى أطفو على سطح الماء هذا إن رأيت أنّ بقائي تحت الماء طال ، سأبحث عنها في قاع البئـر قد تكون عالقة هناك رغم أنني أعرف أنّ الغريق يطفو على سطح الماء بعد مدّة من غرقه لكن من يدري فقد تكون عالقة بالقاع قال هذا و بدأ في التدرّج أسفلا نحو قاع البئر.
    عندما لاحظ جيران حامد وقوفنا المطوّل حول البئر الذي يبعد قربة نصف الكيلومتر عن مركز "الدوّار" ورأوا أبي ينزع ثيابه العلوية و يربط نصفه بالحبل و كان هذا قبل غروب الشمس بقليل عرفوا أنّ شيئا مـا يحدث فاستهواهم حبّ الإطّلاع على القدوم إلينا و السؤال عمّا يحدث . كان أبي ينزل خطوة خطوة من على السلّم لقاع البئر فلم أتمالك نفسي فرجعت لحافّة البئر لأتطلّع إليه عبر الحاجز الحجري . فلما و صل أبي سطح الماء نظر يمينا و شمالا و دقّق النظر في سطح و عمق الماء فلم يرى شيئا يذكر أو جالب للإنتباه فقال لحامد بأعلى صوته : لا شيء يذكر هنا سأغطس تحت الماء لقطع حبال الشكّ . إرتمى أبي في الماء و بدأت رحلة البحث المضنية فترى أبي يغطس ثم يطفو ثانية و هكذا دواليك قرابة الربع ساعة و كنت أرتعش خوفا على ربح و على أبي من الغرق لأنني تساءلت لماذا ربط أبي حزامه بالحبل وهو يحسن السباحة ، هل خاف أن تخونه معرفته بالعوم أو هل خاف أن تكون مياه البئر غادرة فيعلق هو الأخر بقاعها و يموت في غياب من يحسن السباحة عداي وقد كنت صغيرا لا أقدر عن إنقاذ كهل مثله. في الأخير صاح أبي متوجّها لحامد : لا أجد أي شيء فلا يمكن أن تكون ربح هنا فهل تكون إبرة حتى لا أجدها بقاع البئر ؟؟ ثمّ بدأ بالصعود نحو سطح الأرض . عندما بدأ أبي بالصّعود شعرت بارتياح كبير ف " ربح " لم تكن بالبئر غريقة و أبي عاد سالما للسطح. عندما خرج من البئر كان أبي يرتعد من شدّة البرد لأن مياه البئر كانت غارقة و مثلّجة و قال و الناس حوله لا يوجد أيّ شيء في القاع ما عدى سطل صغير، أظنّه سقط منذ مدة عند تعبئته بالماء من البئر بيد أحد المستعملين. بدأ الناس يتقاطرون نحو البئر فلم يكن أحد من جيران حامد على علم بغياب ربح عن بيتها فهي قليلة الإتصال بهم كما أوصتها أمي سابقا أيّام العرس . ولأنّ حامد تصوّر أن ربح بمنزلنا في بادئ الأمر فلم يسأل عنها الجيران خاصة و أنه يعرف أنها لا تغيب عن المنزل إلاّ لزيارتنا بل أنّه لم يبحث عنها مباشرة بعد عودته للمنزل فقد وجد فطوره على المائدة يشكل معتاد لكنّ ما لفت إنتباهه هو أنّ الفطوركان باردا وهو ما جعله يشكّ في الأمر فتساءل في نفسه ، هل تكون خرجت من الصباح حتى يكون الفطور باردا بهذا الشكل ؟؟ ثم لماذا لم تستشره كالعادة للزيارة وبعدها تذكّر أنّه لم يبت ليلته بمنزله ثم تراجع وقال في نفسه قد يكون هناك داع كبير جعلها تذهب للزيارة دون إستشارتي فهل يكون أحد من عائلة فلان مريضا أي عائلتنا ؟ لذلك لم يكترث كثيرا للأمر بل أفطر و طبخ كأسا من الشاي و لم يغضب لعدم إستشارته بل ما حيّره هو الأمر الطارئ الذي حدث أكثر من غيابها لهذاقال حامد: أتيت إليكم لأسأل عن الأمر و ولأطمئنّ على "ربح" ، هكذا كان حامد يتحدّث الى أبي و جمع من الجيران و نحن في الطريق الى بيته. لما وصلنا قال حامد لأبي وقد إنفردنا ثلاثتنا بالبيت : لقد أكلتني الشكوك خاصّة عندما لاحظت عدم وجود حقيبتها التي إشترتها منذ شهر تقريبا و التي يوجد بها أشياءها الصغرى و الثمينة و حتى ملبسها و هنا فهمت أن ربح لم تخرج في زيارة طارئة او خفيفة و جال بخاطري أنّها غضبت مني لأنها طالما لامتني عن قضاء اللّيل بالضيعة ... قال حامد : عرفت أن الأمر ليس كما إعتقدت في البداية لهذا أسرعت إليكم لعلني أجدها . قال أبي : و لما كنت تعلم أنها لا تحبّذ قضاء بعض لياليك بالضيعة فلماذا هذا الإصرار منك ؟؟ ثم أضاف أبي : الحقيقة أنّك لم تقنعني فكيف يترك المرء زوجته وحيدة وهي غريبة بينكم و يبيت خارج المنزل؟ قال حامد: سأقول الحقيقة و الله يشهد أنني أقول الصّدق فأرجو أن تصدّقني لأنني أشعر أنني ظلمت ربح و أشعر أنني أتعذّب لهذا، فأرجوك أن لا تغضب منّي . قال أبي : نعم ..تكلّمْ ..وأعدك أن لا أغضب منك ، أريد فقط أن أعرف هذا السرّ الدفين و أين يمكن أن تكون ربح ؟
    تذكرت أن ربح أوصتني منذ شهر تقريبا أن أشتري لها حقيبة متوسّطة الحجم كالتي إشتراها أبي لأخي الكبير عندما نجح بالسّنة السادسة "السيزيام" ليحفظ بها ملابسه التي أشترطها المعهد لقبوله بالمبيت المدرسي بمكثر و كان شراء هذه الملابس " التروسّو" شرطا ملزما لكلّ تلميذ بيّات و وضْع رقم التلميذ و طرْزه على كل قطعة لباس او غطاء او فراش شرطا ملزما كذلك و إلا لن يقبل التلميذ و كانت أختى الصغرى التي تجيد طرْز الأرقام تتكفّل بهذا طيلة عطلة الصيف حتى يجد أخي كل الأمور جاهزة للرجوع للمعهد عند إنتهاء عطلة الصيف. أعجبت ربح بالحقيبة و بحجمها ولونها و بسعرها المقبول فقالت لي : من أين أشترى "سيدي فلان" الحقيبة و بكم ؟ فقلت لها من حانوت الملابس الجاهزة الذي يقع بمركز القرية و أن ثمنها كذا وكذا فقد كنت حاضرا عند عملية شراء " التروسّو" ، فقالت : سأسلمك النقود اللأزمة لتشتري لي مثلها فأنها أستحقّها و أحتاجها . في الغد ذهبت الى الحانوت المذكور و اشتريت الحقيبة و عدت بها إليها ففرحت بها كثيرا و قالت لي علّمني كيف أفتهحها و أغلقها ، ففتحت مغلاقيها الجانبيين و فتحت الحقيبة التي كانت مزركشة من الدّاخل بأشكال الزهور و أعدت غلقها من جديد وهي تتابعني بكلّ إنتباه وكأنني أفتح صندوق العجب فأعدت عملية الفتح و الغلق عدّة مرات الى أن تعلمت ربح كيفية الغلق و الفتح و استعمال المفاتيح المصاحبة للحقيبة لأحكام الغلق ، عندها شكرتني أيّما شكر وقالت : قد أتعبتك ياولدي لا أدري لو لم تكن معي ماذا سأفعل ، بل لقد أتعبتكم كلّكم ، الله يسامحني و يجازيكم خيرا ، لقد أتعبت "سيدي فلان" و كانت تقصد طبعا أبي و قد تحمّل الكثير من أجلي و رغم المشاكل التي حدثت لم يتأخّر يوما عن الوقوف بجانبي ، ثم نهضت وعانقتني طويلا و قالت : أخاف أن أفتقدكم ...أخاف أن أفتقدكم إلى الأبد....
    لم آخذ حديثها على محمل الجدّ فقد كانت تقول مثل هذا الكلام كلما ساعدتها في شيء أو في قضاء شأن من شؤونها بل و أصبح كلامها معتادا بل وروتينيا و كنت لا أرفض لها طلبا حتّى و إن تقاعست لإنشغالي باللعب الطفولي البريء و كانت ربح تعتبرني إبنا لها و مركز ثقتها العمياء و تمدّني حتّى بالنقود و كنت بدوري أقدّرها و احترمها و أتذكّر وقفتها معي أيّام الشتاء القارس و تجشّمها الأتعاب من أجل تخفيف البرد عليّ فكنت كالطفل ذو الأمّين ، أمّ بالبيت و امّ بالطريق الى المدرسة فقد كنت محظوظا لأنني ألقى الرّعاية و العناية من الإثنتين.

    تتنحنح حامد و كأنّه يبلع غصّة في الحلق و قال: نعم ..نعم يجب أن أقول الحقيقة ...

    يتبع......


    التعليقات
    4 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة