• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زُرقـَة بـحْـر... و مـوعـد (22)






    جلس على كرسيّ مكتبه وهو شارد الذّهن و بحركة لا إراديّة دفع فنجان القهوة فسكب ما فيه على بعض الأوراق الإدارية، تمتم قائلا: أكان ينقصني هذا ؟ أخذ الهاتف الإداري و اتّصل بغرفة عاملات التنظيف قصد استقدام إحداهن لتنظيف المكتب و إزالة المسكوب من القهوة، عندما رنّ الهاتف ردّت عليه رئيسة العاملات و وعدته أن إحدي العاملات ستأتيه فورا للقيام بما هو مطلوب. عندما دخلت عاملة التنظيف و رأته على غير عادته فاقدا لابتسامته و بشاشته و مكفهرّ الوجه، قالت: لا بأس لا بأس، سأعيد كل شيء نظيفا كما كان ثمّ لا تنسى أن من يسكب قهوته صباحا هي علامة بأنّ اليوم سيكون سعيدا و مباركا و دلالة على التفاؤل، هكذا في عاداتنا و أعتقد أنّه كذلك في عاداتكم، ردّ عليها قائلا: نعم، هكذا يقال عندنا أيضا، لكنّني لا أعتقد في هذا الكلام، ثمّ قام و أعطاها مفتاح باب المكتب و أمرها أن تغلق المكتب بعد أن تكمل عملها و تسلّمه له في المشرب لأنّه يريد أن يشرب قهوة أخرى.
    في الحقيقة لم تكن له رغبة في الحديث لأنه يعرف أن تلك العاملة لها استعداد ملفت للثرثرة ثمّ أن اليوم لم يكن سعيدا كما تقول و أنّ انقباضه هو الذي كان سببا في سكب قهوته، فمنذ أن هاتفها صباحا أشتدّ عليه الأمر خاصّة عندما أعلمته بكل برودة أنّها ستأتي و قد لا تجد متّسعا من الوقت لتراه، بل و كادت تؤكّد ذلك دون مراعاة لما يربط بينهما، فما يربطهما هي قصة حبّ لا زالت لم تتجاوز أشهرها الأولى، قصّة تربّت في أحضانهما كالوليد المدلّل أنعشها بدفء كبير حتى تظلّ وارفة و بوصلة لقلبيهما. تساءل وهو في الطريق إلى المشرب، هل كانت تدرك ما تقول؟ هل انتبهت إلى ما اقترفته في حقّه و إلى هذا الكلام/الصقيع الذي نطقت به و إلى نبرتها الباردة و الجافّة، ماذا حدث ، هل بدأت القصّة تميل و تتّجه إلى نهايتها، و أيّ نهاية هذه ؟ هل يحقّ لها أن تقرّر وحدها ما تريد و ماذا دهاها، هل أخطأفي حقّها دون أن يدري ؟
    بصمت و شرود جلس وحيدا في ركن المشرب و أشار للنّادل أن يناوله قهوة، ظلّ صامتا و هو يفكّر و لم ينتبه حتى إلى قهوته التي وضعها النّادل على طاولته،أدار السكّر في قاع الفنجان، يريدها قهوة حلوة لتزيل المرارة التي يشعر بها في حلقه، يبحث عن شيء حلو كي يجابه هذا اليوم الثقيل، هكذا هو يغيّر الأماكن و يبحث في كلّ شيء عمّا هو جميل ولا يستسلم بسهولة للسّواد و القتامة، نعم لقد رجّته و أربكته ببرودتها المفاجئة و التي لا يعلم لها سببا لكنّه سيصمد، سينتظرها حتّى يفهم ما يحدث بالضّبط، فقط كان يبحث عن تبرير لما يحدث ثمّ بعدها يقرّر إن كان سينهي ما كان بينهما من هذا الحبّ و الوله بعمليّة قيصرية و حادّة قد يكون تأثيرها مدمّرا و مزلزلا لكيانه أو قد يفقده هذا ثقته في نفسه أو في النّساء عموما، لكنّه ظلّ يطمئن نفسه، لا يريد أن يعيد قصصه القديمة لأنه سئم الجراح وكان يعلم بأنّ جرحه لن يندمل و لو بعد سنين، كان متأكدا أنّه سينزف كثيرا و أن كلّ الضمائد قد لا تكفي لوقف النّزيف لكنّه قد لا يبرأ و لن يستعيد عافيته كعاداته الأولى.
    يال هول ما يحدث؟... أبدأ يفكّر في الرّحيل وهو أعلم بأن الوقت و العمر قد لا يسعفانه برحيل جديد؟ هل لهذا القلب المتعب و المنهك قدرة على يجدّد جواز السّفر للرّحيل الكبير؟ اعتراه خوف من المجهول لم يتصوّر أنه يحبّ في هذه الفترة الوجيزة و يرحل في فترة أوْجز، ارتشف قهوته و في جرعتها الأخيرة، تبسّم ابتسامة سخرية لأنّه لم يتذوّق طعم السّكر في قهوته، حتّى السكّر يرفض أن يستجيب ويحجب حلاوته، تأتي عاملة التنظيف بمفتاح المكتب وهي مبتسمة و قائلة:شربت قهوتك؟... فيها الشفاء إن شاء الله، ألم أقل لك إنّه يوم مبارك؟ تفضل، هذا مفتاحك، المكتب نظيف كما تريد و أكثر، أنت تعرف أنّني أقوم بعملي بكلّ جدّ و إخلاص و حرفية عكس زميلاتي لذلك يفضل الجميع أن أكون في خدمتهم، رغم ذلك لم أتحصّل على صنف مهني أعلى منذ ستّة سنوات، "الله غالب" أنا غير محظوظة، لعلّك ستساعدني هذه السنة لأكون ضمن المصنّفات مهنيا، أنت تعلم حالتي و... شكرها و أخذ منها المفتاح واعدا إيّاها بالمساعدة و عرض المسألة على من له النّظر، كان يجب عليه أن يرجع لمكتبه هروبا من حديثها الذي لا ينتهي و رغبة في أن ينفرد بنفسه لأنّه يشعر بالضيق و التبرّم.
    يمرّ اليوم ثقيلا ركيكا، لم يقم بواجبه المهني لأنّه لم يجد أيّ رغبة في ذلك،قرّر أن يغادر العمل، عندما يعود لبيته يفتح جهاز التلفاز ثمّ يستلقي على الأريكة، لم ينزع ثيابه و لم تكن له رغبة في أن يذهب لسريره، لعلّه أراد أن يهرب من حافظة الملابس، من المنديل الورقيّ الأبيض، من شعرة رأسها الذهبية التي احتفظ بها كدرّة ثمينة، يشعر ببرد في أطرافه، أراد أن يحتمي بغطاء ، كم هو في حاجة إلى الدّفء؟ الى وهج أنفاسها، إلى حضورها في هذا الوقت الذي يشعر فيه بالإنهاك أو..بالهزيمة، تراجع في رغبته، ماذا سيفعل بحضورها البارد؟ قد يزيده ألما و ضيقا، لا بديل عن الغطاء فالبرد غزى جسده بأكمله، نهض و اتجه نحو سريره أخذ غطاءه و خرج مسرعا كأنّه يهرب من شعرة رأسها الموجودة في هذا المكان لم ينظر حتّى لحافظة الملابس، فهم أنّه فقد شجاعته و أن النّوم في قاعة الجلوس و على أريكة قد تجعله أكثر راحة حتّى يسرق ساعة أو ساعتين من النّوم لأنّه يعرف أن ليله سيكون طويلا و ثقيلا و أن الأرق سيستبدّ به.
    يغلق جهاز التلفاز و يطفئ النّور و يرتمي على الأريكة بثيابه يحتمي بغطائه طلبا للدفء، تتوالى الصّور كشريط سينمائي توثيقي، صورها وهو يقابلها أوّل مرّة في موعد شيّق كان يريد أن يراها و لو للحظات ثم بعدها تذكّر كيف أفتكّ برضاها ما يكفيه من الوقت، كانت في مهمّة مهنيّة لكنّها لم ترفض مقابلته بل سرقت من وقتها المهني ما كفاهما، أذا كيف تقول اليوم أنّها قد لا تجد من الوقت متّسعا و أنّ شغلها قد يمنعها من أن يراها ؟ صور أخرى تمرّ بعض الظّنون تأكله جسده ، سينتظر الصّباح بفارغ الصّبر، يستجدي النّعاس فلا يستجيب . أيّها النّوم أعتقني و خلّصني من هذا الظلام و هذه الكوابيس هكذا كان يردّد في داخله، خبّا رأسه تحت الغطاء و أغمض عينيه قد يسعفه غطاءه و يهبه نوما ليختصر مسافة الوقت ويرى نور الصّباح.
    لا يعرف كم نام و متى أخذه النّعاس فقد أضاع مواقيته و بوصلته، اندفع من تحت غطاءه كالمرعوب، لا يجب أن يضيع الوقت فقد استجاب له النّوم في النّهاية و ها أنّ أشعّة الشّمس تسطع و تتسلّل عبر النّافدة، يلتفت إلى السّاعة الحائطية و يتطلّع لمعرفة الوقت، يطمئن، لا زال الوقت كاف، إغتسل وصفف شعره بسرعة ثم لبس حذاءه و خرج لتوّه متّجها نحو المحطة، لم يشرب قهوته المعتادة و لم يشتري جريدته ولم يفكّر في أن يهبها وردة صباحيّة فقد تعطّلت كل حواسّه و لم يعد للورد معنى، أخذ هاتفه الخلويّ و كلّمها كان جادّا وجافّا في نبراته عندما قال لها: صباح الخير، ستجدينني في إنتظارك، يجب أن أراك عندما تصلين الى المحطّة ارجو أن تهاتفيني، لم ينتظر ردّها فقد قرّر أن لا يترك لها أيّ مجال لمقترح آخر و أن يأخذ الأمر بيديه، قد تكون همهمت لمّا كلّمها أو أرادت أن تقول شيئا لكنّه أغلق الهاتف، كان يشعر بغضب شديد، لذلك لم يتمالك أعصابه و فقد كل رقّته و لينه المعتاد و صُمّت أذناه و شعر بطنينهما، نعم كان عصبيّ المزاج وهذا لا يحدث دائما إلا عندما يشعر بالعجز أو بأنّ شيئا مّا يهرب من بين يديه فجأة ودون سابق إنذار، عندما وصل للمحطّة وقف في مكانه المعهود جامدا كالصّخر و باردا كليل الشّتاء، لم يرتجف ولم تأخذه الرّعشة ولم يشعر بتلك الخربشة في قلبه ولم يخفق خفقات المشتاق كما كان يحدث سابقا عندما كان يستقبلها.
    رنّ الهاتف ففهم أنها هي، تثبّت في شاشته ثم أرجع الهاتف و نظر في بهو المحطّة فرآها قادمة على عجل و بيدها حقيبة بنّية اللّون وباليد الأخرى هاتفها المحمول، تقدّم منها غير واثق من نفسه وارتبك بعض الشيء لذلك أراد إخفاء غضبه الظّاهر في علامات وجهه و سحنته المتوتّرة لكنّه لم يفلح ، مدّ يده الباردة إليها ليصافحها، لم ترتعش يده ،مدت يدها بدورها، ثلج يصافح ثلجا و برد يتصادم ببرد، لم يقبّلها كعادته بل لم يبتسم حتّى، فهمت أنه على غير عادته فأرادت معاتبته بأن قالت له:أنت بخير، مالك ؟ قال: إممم... لا، لا شيء، قد يكون هذا غير مهم الآن. أظنّك بخير و أتمنى ذلك و... قاطعته قائلة: سبق و أن قلت لك بأن لا تأتى سأرى إن كان هذا ممكنا في المساء، أي بعد أن أنهي ما أتيت من أجله، كان عليك أن لا تتعب نفسك و تكلّفها هذه المشقّة. قاطعها بدوره قائلا: أيّة مشقة ؟ كأنك لم تفهمي بعد، ما يشغلني ليست المشقّة كما تتحدثين بل تغيّرك المفاجئ، ما يحدث الآن لم أعتد عليه من قبل، على كلّ سأرى إن كنت ستأتين هذا المساء أم... إن كان كذلك ستكون فرصة لأفهم ما يحدث.
    إستقلاّ سيّارة التّاكسي وتوجّها إلى الوجهة المطلوبة كان صامتا ينظر يمنة ويسرة لكن هذا لم يمنعه من تأمل أصابع يدها التي طالما رفّت بين أصابعه تذكرها عندما كان يمسكها من يدها كالطّفلة الصغيرة وهما يجوبان شوارع المدينة ، كانت تتأمل بدورها وجهه الممتقع خلسة، لم تنبس ببنت شفة و كأنّها فهمت أنه في أوجّ غضبه و أنه من الأجدى تجنّب الحديث الذي قد يزيد الأمر تعقيدا، عندما وصلا أصرّت أن تدفع أجرة التاكسي عوضه ممّا زاد في غضبه و انفعاله فقد كان تصرّفا استفزازيا في نظره، فلم يحدث هذا من قبل و أيّ معنى لهذا الإصرار ؟ لما همّ بالمغادرة قالت له بنبرة جادّة: كن واثقا أنّني سأوفّر بعض الوقت لأراك هذا المساء، فأنا بدوري أريد أن تتّضح بعض الأشياء الهامّة. نظر في وجهها ثم قال: إممم سأرى...إن لم تجدي متّسعا من الوقت فلا تتعبي نفسك، قد تكونين محقّة فقد لا ينفع هذا اللّقاء في شيء...ثم غادر المكان.
    سيتدبّر أمره و لن يذهب للعمل هذا اليوم لأنه يرفض أن يذهب للعمل متوتّرا و على تلك الحال فهذا لا ينفع في شغله أيّ شيء و ليس له استعداد في يرى أحدا من زملاءه أو أن يتحدّث لأي أحد منهم، شعر أنه بحاجة في أن يجلس في مكان لا يعرفه فيه أحد و أن يتناول قهوته الصباحيّة دون ثرثرة الزّملاء تصحبه فقط جريدته اليوميّة لذلك سار في الأنهج الجانبية للمدينة حتى يتجنّب أي كان من أصدقاءه في الشارع الرئيسي وهناك في أحد الأنهج الضيّقة عثر على ضالته، مقهى هادئ و نظيف قليل الروّاد وذو أنوار خافتة ومريحة...جلس في ركن بعيد عن الباب الرئيسي و طلب قهوته و غرس رأسه في صفحات جريدته ...
    تناسى أمرها تماما كأنّه لم يكن ينتظرها، و رأى أن غضبه تجاوز حدّه و أنّه كان عليه أن يتماسك أكثر و أن يتبيّن سرّ انكماشها و برودتها و بعدها يقرّر ما يراه صالحا، فمن الحكمة أن يتروّى قليلا و أن لا يظلمها حتى يكون قراره سليما، بدأ و كأنّه يطمئن نفسه أو لعلّ تأكيدها بأنّها ستبذل جهدها لتراه في المساء جعله يتراجع قليلا و يراجع مواقفه منها و يتريّث في الأمر، لكن هذا لا ينفي أنّه بقي ينتظرها بشكوكه و ظنونه و رغبته في أن يطفأ لهيب الشكّ، و ذكّر نفسه في النهاية أنّه رجل و أن عليه أن يحبّ كما يحبّ كل الرّجال الشرفاء بعشق ملتهب و بتكافؤ كامل و دون حسابات أو أن يغادرها مغادرة الرجال النبلاء و دون غرور أو ترفّع لذلك بدأ يشعر باطمئنان و شعر بأنه بدأ حاسما في كل الاحتمالات أكانت سارّة أو حتّى صعبة...
    مرّ الوقت بين الأمل و اليأس لم يشعر بالجوع، فقط شعر بعطش شديد لذلك طلب من النّادل قارورة ماء بارد فقد كان يحبّذ الماء البارد حتى في فصل الشّتاء، أطفأ عطشه ثم قرّر أن يتمشّى قليلا حتى يخفّف وطأ الانتظار، ساقته قدماه إلى الشّارع الرئيسي بعد أن تجنّبه عند نهاية الصباح فلم يعد يهمّه من سيرى من أصدقائه فقد اكتفى بانفراده طيلة هذا الصباح و ما مرّ من الوقت. عندما وصل منتصف الشّارع و عند حدود تمثال " بن خلدون " رنّ الهاتف في حدود السّاعة الثالثة مساء... نظر في شاشة الهاتف و تأكّد من أنها هي من كان على الخطّ...


    يُتْبَعُ....
    التعليقات
    8 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة