• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • رؤيــة الــشــهــر الــسّــابــع-5-

    خرجت الأم من خلوتها مع العمّة مريم بعد ساعة تقريبا و كانت مصفرّة الوجه شاردة على غير عادتها بينما بقيت العمّة مريم ترتشف كأس الشاي و كأنّ الأمر لا يعنيها بل و لا شيء يدلّ على أن الأمر فيه ما يزعج ، ضلّت الأمّ تدور في السّاحة في ذهاب و إيّاب دون غاية أو هدف واضح وعندما أطالت هذا الشرود نادتها العمّة مريم قائلة: يا ابنة أخي إعلمي أن حياة الأم هي الأهم بالنسبة لي ما زاد عن ذلك يمكن تعويضه اليوم أو غدا ، ألا ترين ما حدث لزوجة " سي الطيّب" إبن عم زوجك ؟ ها قد ماتت يوم المخاض و تركت أبناءها يتامى، هل أمكن تعويضها ؟ أبدا لا...الأمّ هي رأس المال و بعدها كل شيء يهون و قابل للتعويض، الأعمار بيد الله با بنت أخي ، لكن لو كنت حاضرة و كنت أنا قابلتها و أشرفت على ولادتها من الأوّل الى الآخر لأنقذت حياتها ، أقول الأعمار بيد الله و أستغفر الله من كلامي هذا لكنني لو كنت حاضرة لضحيت بحياة الجنين في سبيل إنقاذ حياتها ، أنا أعرف" خديجة " قابلة نساء عرش زوجك بل وحضرت عملية توليد منذ سنوات أظنّ يوم وضْع جارتك "هنيّة" لبنتها البكر، لقد كانت مرتبكة و خائفة زيادة عن اللزوم ، نعم إن الحذر واجب للواضعة البكر لكن عندما يفوت الحذر اللزوم يصبح خوفا و الخوف يذهب البصر البصيرة لو لم أساعدها يومها ولو لم آخذ الأمر بيدي لحدثت الكارثة و ضاعت الأم و الجنين . قالت هذا وهي تشعر بخيلاء و فخر فهي منقذة حياة "هنية" و وليدها حسب ظنّها و منذ ذلك اليوم حذّرت بنت أخيها من مغبّة الولادة في غيابها و اللّجوء للقابلة "خديجة" فهي لا تثق في مهارتها في التوليد . عندما أتمت العمّة "مريم" كلامها شعرت الأمّ بدوار شديد ، فقد تذكرت ليلة الشؤم التي و لدت فيه المرحومة "خضْراء" زوجة "سي الطيّب" فقد كانت ليلة شتوية قارسة و ممطرة تخللتها موجات من الثلج و الريح عندما شعرت "خضراء" بآلام المخاض يقطّع أحشاءها وأمرت زوجها أن يحضر القابلة "خديجة " بسرعة لمساعدتها على الولادة و تخفيف ألم الوضع فأحضر لتوّه القابلة و معها زوجة أخيه الكبرى لتشرفا على ولادتها . لم تعتد النساء وقتها على الولادة بالمستشفيات أولا لعدم تعودهنّ على ذلك فالولادة بالمنزل و بالطرق التقليدية فيه ستْر للمرأة حسب رأيهنّ و رأي أزواجهنّ ،ثم أن نقلهنّ للمستشفيات يتطلب سيّارات و هو ما يعوزهم لعدم جاهزية الطّريق الوعرة و الريفية ثم ّ أنّ إستقدام سيارة إسعاف يتطلّب إشعار إدارة المستشفى البعيدة عشرات الكيلومترات و الموافقة عليه من طرف الإدارة و جاهزية السيّارة و الطريق و هم أمر يشبه المستحيل لذلك يحبّذون الولادة بالطرق التقليدية مثل من سبقهم من الأجيال السّابقة و حفاظا على حياة الحوامل لأنهن قد يمتن و هنّ في الطريق إلى المشفى و هذا ما يحدث في بعض الأحيان . تذكرت الأمّ تلك الليلة السوداء ليلة وضْع " خضراء " فقد برّح بها الألم و عسر الولادة و كان صياحها عالي لدرجة إستفاقة كل نساء و أطفال" الدوّار" من النّـوم و الإلتحاق ببيتها قصد المساعدة إن أمكن ،فأشعلن النار قصد تدفئة البيت و سخّنّ الماء في أكثر من مرّة في أواني كبيرة لتستعملها القابلة لتسهيل الولادة بينما تجمّع الرجال لمتابعة الولادة و أخبارها عن بعد فلا يحقّ لهم المساعدة في مثل هذه الأمور لأنّ النساء أدْرى بذلك . تعالى صياح "خضراء " أكثر و أكثر فقد إستحالت الولادة رغم المساعدة التي تقدّمها النساء لها منذ ما يزيد عن ثلاث ساعات مما حدى بزوجها لدخول المكان على غير عادة الأزواج لإستطلاع الأمر و المساعدة إن أمكن، فلما رأى رأى زوجته على تلك الحال و هي في شبه غيبوبة و قد تصبّب منها العرق رغم برودة الطقس و الشّتاء القارس ، علم أنّ الحالة صعبة و خطيرة جدّا على حياة زوجته و تملكه رعب شديد ، فكيف يكون هذا العسْر و قد ولدت من قبل مرّتين و كانت ولادتها يسيرة و سهلة ؟ حاول المساعدة في بادىء الأمر و لما علم أنه لا يستطبع رؤية زوجته على تلك الحال و أن النساء يستطعن المساعدة أحسن منه خرج من المكان و توجّه نحو الرجال ليعلمهم بالحالة الصّعبة و الخطيرة التي عليها زوجته ، فحاولوا التهوين عليه لأنهم يعلمون أنه من المستحيل نقلها للمستشفى و حالتها هكذا بل و حالة الطقس و الليل الحالك و انقطاع الطريق جرّاء الأمطار و الثلوج يجعلون المهمّة صعبة و مستحيلة في المقابل ساد صمت رهيب و لم يعد يسمع في هذا الليل إلاّ صياح "خضراء" و نباح بعض الكلاب و صياح الديكة . مع بزوغ الفجرسمع الرجال صياحا و عويلا يتصاعد من بيت "سي الطيّب" فلم يكن الأمر يحتاج لتفسير بل قلْ و كأنهم كانوا في إنتظار الخبر الصاعقة ، فتسارعوا نحو البيت وكانوا كلما إقتربوا زاد العويل و البكاء فاقتحموا المكان دون استأذان و إذا بهم يرون "خضراء " جثّة هامدة ممدّدة و مسجّاة وسط البيت يعلوها غطاء أبيض و بجانبها رضيع ذكر لا زال على قيد الحياة لكن لا أحد يهتمّ به أو يحاول حفظه وربط حبله السرّي و حفظ المشيمة ، بينما كانت القابلة "خديجة" تلطم وجهها و كأنها السبب فيما حدث و كانت النساء يواسينها و يخففن عليها لعلمهنّ أنها قامت بكل ما في وسعها لإنقاذ حياتها لكنها فشلت . جثى "سـي الطـيب " المسكين على ركبتيه و نظر مليا في وجه زوجته ثم نزلت دمعتان حارّتان بعدها أراد القيام فلم يستطع حاول جاهدا مرّة أخرى ففشل ، مسكه أخوه من يديه و ساعده على القيام و عندما نهض خبّا وجهه بكمام " القشبيّة " حتى لا تراه النسوة وهو دامع العينين و على تلك الحالة من الإنهيار. تذكرت الأمّ أنها هي التي ساعدت الوليد رغم حالة الصدمة و الحزن الشديد التي كانت عليها ، فقد حملته للبيت المجاور و اخذت معها سطلا من الماء الساخن و كانونا من الجمر و بعض خرق القماش لكي تقوم بما يجب عمله مع أيّ وليد جديد ، ورغم أن النساء كن ينظرن إليها شزرا و هن غاضبات لأعتقادهنّ أن هذا الوليد غير مبارك و طالع نحس على أمّه و لا يستأهل الحياة بعد الذي حدث في أمه ، لكن الأمّ أصرّت على إنهاء مهمتها لإيمانها بأنّ هذا ردّ فعل طبيعي نتيجة الموت إثر الولادة . تكفلت الأمّ بالوليد و ساعدته و حملته معها لمنزلها وهي في حالة حزن شديد و لا يفارقها وجه " خضراء " الباسم الودود و حسن معاشرتها لجاراتها لذلك صعب المصاب على الجميع و كانت ترى أن عيْنا "خضراء " تتابعها و تبارك عملها فاهتمّت أكثر بأمور الوليد الجديد إرضاء لها . تذكرت الأم كل هذا الشريط الأسود من موت "خضراء" و كلّ الأحداث الحزينة التي حفّت به و كيف أنه قبل دفنها بساعة تقريبا و بعد إغتسالها الأخير و ضعت النساء غربالا مليئا بحليّها و كل مصاغتها على صدر الرّاحلة إعتقادا منهم قلبها " يبرد" ولن تشتاق أبدا للحليّ الذي إشتراه لها زوجها و لم تزدان به في حياتها ، نعم ، هكذا يفعلون مع كل إمرأة تموت و لها من الحليّ الذي لم تزدن به سابقا و قبل موتها. و تذكرت كيف أنه وبعد أسبوع من الوفاة قدم "سي الطيّب" و معه أخته الكبرى ليشكراها على صنيعها و إنقاذها للرضيع الذي كاد أن يلتحق بأمّه لولاها و حملاه معهما و كان الأب لا يريد النظر في وجه الرضيع خوفا من أن ينهار أمام النساء و كيف أن عمّته ضمّته الى صدرها و كأنه إبن أحشاءها قائلة لأخيها : أنا لم أتزوج كما تعرف و قد ألهمني الله الصبر حتى أنني رفضت عرض زواج في آخر العمر و خيّرت العيش بينكم و خدمتكم و خدمة أهل بيتي عموما فأنا أختكم الكبرى و لا يمكن أن يـردّ لي طلب و أنت تعرف أن طلباتي قليلة جدا لكنني أرفض أن يردّ لي طلب و عليه فـأنا سأتبنى هـذا الولـد و من هذا اليوم فصاعدا هو إبني و أنا أمه . إنتظرت ردّ أخيها الذي جاء مسرعا عندما قال : "هو لك و هل سأجد خيرا منك لرعايته بعد وفاة أمه...من اليوم فصاعدا انت أمه و أنا أبوه ...كلّ تكاليفه و مصاريفه ستكون على حسابي ...أرجو أن لا ترفضي طلبي" و من يومها أطلقت الأمّ العمة إسم " عبد الحيّ " عليه و أصبح إبنها المدلّل.

    مرّ الشريط سريعا في مخيّلة الأم الحبلى وهي في حالة من الدهشة و كأنّ الأمر حدث أمس أو ليلة البارحة ، عندما قطعت عليها عمتها شرودها قائلة : " أظنّ أن زوجك عاد يا بنت اخي فأنا أسمع نحنحته المفتعلة التي يطلقها كلما عاد ليعلن قدومه و ليجنّب ضيوفه الحرج " فأومأت الأمّ أنْ نعم و أسرعت لإحضار مائدة الفطور التي وعدته به هذا الصباح.

    يتبع...

    التعليقات
    6 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة