• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زرقـــة بـحـر...و مــوعــد (1)

    المشرب يعجّ بالزملاء يتوزّعون أفرادا و حلقات الكلّ يتحدث على الثورة ، الكلّ يناقش أهداف الثورة بل مزاياها وأخطاءها ، هذا بائع الأعلام البنفسجيّة و صور الديكتاتور المخلوع للخلية الحزبية بالمؤسسة و الذي تلاعب بالفواتير في كل مناسبة حزبية يتشبّث بالغوغائية في حديثه و يزايد في ثوريته وهو يعلم أنه أوّل المتضرّرين بفقدانه سوقا مثالية لبيع الأعلام و الصّور و كل مظاهر الزينة النوفمبرية السّابقة، و الآخر عدّل مظهره ليتناسب و شروط النسك و التديّن حتى يظهر بمظهر الراجل الصالح و الورع ......
      يبقى صامتا ﻻ رغبة له في الدخول في هذا الهراء ، يستفزّه أحد زملائه قائلا : لمذا ﻻ تشاركنا الحديث ، أأنت أسف على سقوط الديكتاتور ؟ ينظر إليه متأفـّفا ، ويجبيه بإستهزاء : " نعم أنا أسف على سقوطه أﻻ ترى أنني خسرت عموﻻتي و تجارة بيع اللافتات و الأعلام ؟ " قال هذا في إشارة الزميل السابق و يأتي أخر ليستفزّه بدوره : ها قد سقط النظام و هرب الديكتاتور فمن ستعارض و من ستسبّّ ؟ فينظر في وجهه و ﻻ يجيبه و يأخذ فنجان القهوة و يتجه خارج المشرب ليذهب الى مكتبه فرغبة الصمت و عدم الدخول في هذه المهاترات و السطحيات تجعله يغادر المكان ليختلي بنفسه وليتحاشى هذا الحشو الكلامي لأنه يكره نفاقهم و قدرتهم على التلوّن و التأقلم فبالأمس القريب كانوا يتنافسون و يتوددون للخلية الحزبية لأجل حظوة و منفعة شخصيّة و يتباهون بإنخراطهم في هذا الحزب وكانوا يعتبرونه وهو الذي رفض الإنخراط الحزبي مغرّدا خارج السرب و ناكرا لجميل الرئيس الطيّب و الوطني . يدخل مكتبه ، يفتح الحاسوب ، و يرتبط بإذاعة البي بي سي عن طريق الأنترنات ، يضع وجهه بين كفّيه و يغمض عينيه و يستغرق في لحظة تفكير، الحقيقة أنه لم يكن يستمع إلى الإذاعة و ليس له رغبة في أن يبدأ العمل فلا يوجد أيّ شيء متأكد ثمّ أن هذا المساء ينتظره موعد غير عادي قد يخرجه من حالة الروتين و ضغط أحداث الشارع هذه الأيّام و تواترها بشكل سريع و غير مسبوق جعلته يشعر بأن الأحداث تتجاوزه بشكل ملفت.
    في واقع الأمر، منذ أن تذكّر الموعد شعر بأنّ الإنقباض بدأ يخفّ شيئا فشيئا و أصبح يفكّرفي أن يكون مستعدّا كما يجب و ان يتسلّح بقدرته على وضع الحدث في إطاره الحقيقي و ان يديرالمقابلة بما ﻻ يمكن أن تتجاوزه الأحداث. نظر الى ساعته اليدوية فشعرأن الوقت يسير ببطىء شديد فالساعة ﻻ تعدو أن تكون الحادية عشرة و موعده في الساعة الثالثة مساء رغم ذلك قرّر أن يغادر العمل فلا شيء يستحقّ البقاء و ﻻ شيء أهمّ من هذا الموعد. عندما وصل مركز المدينة شقّ الشارع الجانبي و دخل الي مطعم حيث تناول وجبة خفيفة ثم طلب كأسا من الشاي بالنعنع ، ترشّف كأسه وهو يفكّر في مكان الموعد ، هل يكون في وسط المدينة ؟ بعد تفكير قرّر أن يتراجع فلا يجب أن يكون هذا الموعد في هذا المكان فاللقاء قد يكون له صبغة خاصّة أو حميميّة و هو يكره أزيز محركات السيّارات و الحركة الدائبة للمترجلين و قد يكون هذا سببا في توتره و يشتّت تركيزه . فجأة تذكّرأنّه يمكن أن يذهب إلى شاطئ البحر الصخري فالمكان هادئ و الطقس جميل ثم أن مشهد البحر يريحه و يلطّف مشاعره و يجعله أكثر تقبّلا للأخر ، نعم ﻻ يوجد أجمل من هذا الشاطئ الصخري ، عندما نظر الى ساعته اليدوية انتبه إلى أنّه لم تبقى إﻻ ساعة واحدة على موعد اللّقاء وهنا قرّر أن يستقلّ القطار لأن الوقت يداهمه ليعود الى الضاحية الشمالية وليلتحق بالمكان .
    عندما نزل من القطار توجّه الى تاجر المكسّرات واشترى قارورة ماء صغيرة ونصيبا من فاكهة الفستق و اتجه نحو شاطئ البحر ولمّا و صل الى الحافّة الصخرية شعر برجّة تسري في جسده و هبّت نسمة من الحزن و خياﻻت كئيبة، لقد تذكّر انه منذ شهور خلت كان يأتي هذا المكان وحيدا لينفرد بحزنه و ألمه لموت أخيه الأصغر، كان يجلس على تلك الصخرة الكبيرة متجها صوب البحر يتجرّع مرارة الألم و يشعر أن كبده يتقطّع و أن قلبه ينفطر حزنا على فقيده الذي ربّاه كإبنه الصغيركان ﻻ يريد أن يقاسمه أحد هذا الحزن و كانت تعتريه لحظات ضعف و وهن و تنزل دموعه فلا يجد سبيلا لكفّها، كان هذا المكان هو الستار الوحيد الذي يخفي ضعفه و عجزه و كان يكره ان يراه أحد على تلك الحال فمنذ ان كان طفلا صغيرا كان يحبذ الإختلاء بحزنه و يرفض أن يراه أحد وهو في حالة وهن أو بكاء . كاد يتراجع و يغيّر من جديد المكان لكنه في لحظة مّا جمع شجاعته بين يديه و اتجه نحو الصخرة التي طالما جلس عليها في أيام حزنه و تسلّق الصخور واحدة واحدة حتى إذا بلغها جلس فوقها كما كان يجلس سابقا معلنا تحدّيه للموت و الحزن و انتصاره للحياة و الأمل.
    أدخل يده فى جيبه أخذ بعض حبّات الفستق و نظر الى عمق البحر فرأى بعض سفن صغيرة قد تكون لبعض صيادي السّمك ، كانت بعض طيور البحر تمرّ جوّا وتطلق أصواتها و كان يتابعها كمن يحسدها على حرّيتها و على إمتلاكها مساحة الفضاء الرّحب، ظلّ يتابع هذا المشهد الجميل دون أن ينتبه للسّاعة أو إلى بعض العشّاق الذين يجلسون غير بعيد عنه و يقاسمونه متعة مشاهدة البحر ورغبة الإنفراد الحميمي . تذكر الوقت فنظر الى السّاعة فعرف أن بعض الدقائق فقط تفصله عن الموعد ، قرّر أن يستعدّ الى اللّحظة الصفر، شعر بارتباك و أنّه فقد شيئا من الثقة بنفسه و أن شيئا يحدث داخله فيربكه ، بينما كان يحاول إستعادة الثقة بنفسه رنّ جرس الهاتف ، إرتعشت يده ثمّ أخذه ، خاف أن يسقط بين هذه الصخور العملاقة فلا يقدر على سحبه ، أعاد مسك هاتفه بكل قوّة و نظر الى شاشته ليتحقّـق من إسم الطالب ، نظر مليا ، ﻻ ، ليست هي بل هو أحد زملاءه في العمل ، إمتعض و تساءل في نفسه هل هذا وقته ؟ ثم قرّر أن يجيبه على أن ﻻ يطيل المكالمة لأن الوقت ﻻ يسمح بذلك و عقارب السّاعة تعلن الثالثة ، لما بدأ في المكالمة أراد إختصار الكلام فلم يفلح ، كان زميله يريد شرح أشياء تحدث في العمل و أن على النّقابة أن يكون لها رأيا في هذا بما ينصفه و يرفع عنه الظلم فلا يمكن أن يظلم شخص في عهد الثورة و هروب الديكتاتور، حاول أن يقنعه بأن هذا الأمر يحتمل الإنتظار و انه سيقع النظر في مشكلته حالما يصل غدا الى مقرّ العمل لكنه كان لجوجا و ما إن سمع وقع الأمواج و ارتطامها بالصخور حتى سأله : أأنت على شاطئ البحر ؟؟ فأجابه : ﻻ ..أنا في جهنّم و قطع المكالمة . فتح القارورة شرب جرعة صغيرة من الماء و أعاد النظر الى السّاعة فوجد أن السّاعة تجاوزت الثالثة بقليل فتسرّب الشك اليه و تساءل في نفــــــسه " هل هو موعد عربي ؟؟ " ما كاد يغلق القارورة و يرجعها بجانبه على الصخرة حتى رنّ جرس الهاتف من جديد ، تملكه الذعر أن يكون زميله أعاد الكرّة ، لكن عندما رأى شاشة الهاتف وجد أنها هي ، نعم هي ، و أنّ الموعد لم يكن عربيّا، إبتسم وبلع ريقه و استعدّ لإخفاء إرتباكه كمن يدخل ميدان الحرب.
    يتبع...
    التعليقات
    6 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة