• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زرقـة بـحـر ... و مـوعـد (9)


    نهض من فراشه بعد ليلة مؤرقة قاسية مسهدة، نظر من النافذة من وراء البلّور، فلاحظ أنه لم يكن يوما عاديا،هو يوم غائم وبارد ، تنزل فيه المطر رذاذا بين الحين و الآخر وتهبّ ريح قاسية أشبه بالعاصفة ،حتّى انه لم يكن له أي إستعداد لمغادرة المنزل لولا أنه يأمل في سماع صوتها في هذا اليوم القارس ، آه... لو سمع صوتها هذا اليوم سيخفّ هذا البرد و ستسري حرارة جسده إلى حدّ الدفء ، لبس معطفه ، وفكّر في حمل مطاريته ، لكن تذكّر أن ّ الرّياح سوف تمنعه من إستعمالها ، فقرّر تركها ، ثم فتح باب منزله و أتجه جنوبا نحو المقهى الذي تعوّد الجلوس فيه منذ قدومه الى تلك المدينة . في عادته ان لا يجالس أحدا في المقهى بل ينزوي في ركن خاصّ كل يوم سبت أو أحد و أيام العطل وقد تعوّد النادل به و عرف ما نوع طلباته فكان لا يستشيره في طلب المشروبات، فيناوله بعد حين من جلوسه قهوة سريعة و قارورة ماء صغيرة الحجم ، بينما يتصفح جريدته المحبذة و التّي لم يغيرها منذ سنين رغم إعتراضه على محتواها ، و كان بعد إكمال التصفّح المقتضب و الذي في العادة لا يتجاوز نصف ساعة تقريبا ينهيها بتمتمة تدلّ على عدم رضاه و على رفضه تبرّمه من محتواها ، فيأخذ قلما ليمرّ للعب الكلمات المتقاطعة ، لعل هذا هو أهمّ سبب على إصراره على شرائها ،كان في عادته أن يمضي أكثر من السّاعة وهو على تلك الحال حتى يشعر بالملل فيغادر المكان بعد الدفع تاركا الجريدة على الطاولة. في هذا اليوم سوف يحافظ على كل عاداته القديمة ، فقط سوف تتخلّل جلسته موعده معها إن حدث، فهو لا يعرف كم سيدوم الحديث معها ، و هل سيتمّ تصفّح جريدته و لعب الكلمات المتقاطعة أم لا ؟ حينما جلس في الركن من المقهى الفاخر الرّحب لاحظ عدم وجود زبائن كما اعتاد أن يرى فعرف ان سوء أحوال الطقس قد يكون السبب الرئيسي في عزوف الحرفاء عن القدوم للمقهى.فارتاح للأمر لأنه يكره التزاحم والأمكنة المليئة بالنّاس وهذا سوف يريحه و يجعله في إصغاء تام لها و التمتّع بنبرات صوتها السّاحر فقد يفسد عليه ضجيج الحرفاء متعة السّماع التي هي كنه متعته و الخيط الرفيع الذي يربطه بها .

    عندما جلس وضع هاتفه على الطاولة بعد أن تفقّـد مكالمات "حالة الغياب" فلعلّها تكون هاتفتْه دون أن يسمع رنين الهاتف من شدة الرياح و صوت أزيز محركات السيّارات ؟ لم يجد شيئا يذكرفالقائمة خالية من إسمها، تجاهل الأمر وّ بدأ بتصفّح جريدته في إنتظار النّادل ، لم يطل إنتظاره حتّى ناوله قهوته و قارورة الماء مع إبتسامة خفيفة تدلّ على التّرحيب ، عدّل سكر قهوته حسب رغبته و فتح قارورة الماء و ملأ الكوب و شربه كما تعوّد منذ صغره كلّ صباح قبل أن يتناول أي شيء آخر ثم جال بنظره في أرجاء المقهى ، نظر من النافذة الكبيرة فرأى بعض الطيور السوداء اللّون على رؤوس بعض أشجار النّخيل فلم يستسغ المنظر و تحاشاه فهو لا يحبّ الطيور السوداء اللون إلاّ طائر الخطّاف الذي يأتي ربيعا ليسكن فناء المنزل الرّيفي و الذي كانت امّه تمسح بالزيت على راسه و جناحيه تيمّنا وتبرّكا ظنّا منها أن طائر الخطاف سيهاجر بعد موسم الربيع إلى البقاع المقدّسة ليحطّ على قبر الرّسول و ستنقل اليه إكرام امّي لطيور الخطّاف فتنال مباركته لها و يكون سببا و مفتاحا لدخول الجنّة لذلك كان يحبّ الخطاف لأجل أمه و لقداستها المهيبة منذ صغره. أشاح بوجهه على مشاهدة النّخيل الذي تمايل من شدّة الرّياح ومنع الطيور من الرسوّ عليه و رجع لتصفح الجريدة لكن فقد تركيزه لان الموعد إستهلك كل قدراته في التركيز وحالات الإنتظار توتّره وتجعله في شبه غياب.

    رنّ الهاتف مع السّاعة العاشرة تحديدا، نسي العالم الذي حوله ، نظر لشاشته فوجد انّها هي فابتسم وضغط على زرّ الإستقبال ، يومها لم يكن صوتها كما إنتظر، كانت فاقدة لكل نبرات الرقّة و الإيحاء الموسيقي الجميل الذي تعوّده منذ مدّة. سلمت عليه ببرودة غير معتادة ، فأعاد النظر في شاشة الهاتف ليتأكد من أنها هي أو أنه أخطأ السّماع و الإسم ، حدّق مليّا مرة او مرّتين فعرف أنها هي. إرتشف جرعة قهوة و حاول أن لا يظهر إندهاشه و اهتزازه الداخلي لبرودتها، فسألها عن حالها ظنّا منه انها قد تكون مريضة او في حالة غير مريحة فردت أنها بخير و أنها لا تشكو أي عارض مرضي أو حالة إستثنائية فزاد إستغرابه و حيرته و عزى ذلك لحالة الطقس المتقلبة و القاسية البرودة لعلمه أن لحالات الطّقس الباردة تأثير سلبي على نفسية الإنسان. إعتدل في جلسته و دفع الجريدة جانبا ، شعر أته لم يرتوي و أن العطش يجفّف حلقه أكمل ما بقي من الماء ، ثم تحامل على نفسه و جمع أشلاءه المبعثرة و تبدلت نبرته الى الجديّة و لبحّة حادة ثم سألها:

    - ما الذي يحدث ؟... هل طرأ طارىء ؟

    ردت :

    - أنا ... ثمّ مهمهت...

    - أنت ماذا ؟

    - أنا ...مزاجيّة و في بعض الأحيان تعتريني حالات لا أفهمها ، أنا بدوري أتساءل ، متى أتخلّص من الطبع القاسي في الحقيقة لا أجد جوابا مقنعا ، سواء أنني هكذا ، ستتعب معي و ستضجر من مزاجيتي المتقلبة ، ما رأيك لو .... ثمّ صمتت ، كأنها أرادت أن تقول شيئا يشبه الصاعقة ، كأنها جنّت أو هو شيء من المسّ ؟ ...

    لم تكن مقنعة ، لذلك رأى أن شيئا مّا تبدّل و تغيّر فجأة ، فكّر جليّا في تلك اللحظات ، تساءل في داخله ، لو كانت أمامه الآن لنظر في عنبيها و فهم السرّ الكامن و راء هذا البرود و حالة التقلّب التي بدت عليها ، يحتاج أن يراها ، ففراسته لم تخيبه أبدا ، و قدرته على فهم العيون و شكل الحدقة تجعلانه في غنى على كل التفاسير و التعاليل لكنها كانت بعيدة و لا يستطيع كشف السرّ من نبرات صوتها ، أقلقه أن يكون هكذا ، هو مرّ أن يكون رجلا لا يفهم و غابت نباهته ، لا يستسيغ هذا و لا يرضاها لأيّ رجل ، تاه بين التساؤل و السؤال ، كيف يتصرف ؟ أينسحب أو يتجاهل هذه البرودة لعلّ طارئا يحدث فيحيله من شوك الظنّ إلى نور اليقين ، فليكن هذا اليقين ما كان ، المهمّ أنه اليقين ، المهمّ إستبيان الطريق ، كم هو محزن أن يضيع منك الطريق أيّها الرّجل ، أن تحول الغمامة بينك و بين المقصد . يومها لم يتكلّم كثيرا ، كان مستمعا غير جيّد ، تاه بين الكلمة و الأخرى و بين الجملة و الجملة ، ضاعت قاعدة الأرتكاز ، تمايل رغم جلوسه على الكرسي و كاد أن بفقد الذّاكرة ، كره أن يكون مفعولا به ، و أن يفقد كلّ أسلحته و يتحوّل على محبّ أعزل ، لذا قرّر أن ينسحب و يقطع من المكالمة دون أن تتفطّن إليه و دون أن يزيد الأمر تعقيدا ، لذا طلب منها إرجاء هذا الحديت ليوم آخر، فقد يكون هذا الوقت غير مناسب للخوض في مثل هذا الحديث ، طلب منها هذا بكل لطف و مودّة لكنّ جفاف صوته خانه و تحوّل الى حشرجة وهو يودّعها ، كانت صامتة و لم ترد على التحيّة و إنهاء المكالمة ، أغلق الهاتف بحركة تدل غضب دفين ، أغمض عنبيه قليلا كي يمسح المشهد الردىء و كي يخرج من نفسه ، فتح عينه وقام من كرسيه متجها للنادل تاركا الجريدة دون حتى الإطلاع عليها ثم دفع الحساب و قتل راجعا لبيته و كأنّه يريد سحب جسده من هذا المكان ...

    يدخل بيته يجلس في الصالون ثم يرمي بجسده على الأريكة يغمض عيبيه يرفع ستارة النافذة الخلفية يغطي بها وجهه ، يحتاج الظلمة يتذكر أنه لم يأكل شيئا من الأمس ، لقد فقد شاهيته تماما ، يلفه برد شديد ، يفقد القدرة على جلب الغطاء لتوقّي البرد ، بعد برهة يأخذه النعاس فينام على الأريكة كطفل صغير...

    لم يعرف كم قضّى من الوقت وهو نائم ، تحسّس هاتفه وجده ملقى تحت الأريكة قد يكون سقط دون أن يتفطّن إليه أثناء النّوم ، نظر في السّاعة الحائطية ، هي الثالثة ظهرا ، هكذا نام أكثر من أربع ساعات دون أن يستيقظ و دون أحلام سعيدة أو مزعجة ، قد يكون عجز حتى عن الحلم ، يفرّك عيبيه ، و يقوم ليجلس على مكتبه ، هو في حاجة ليكتب شيئا مّا أن يخطّ بقلمه على دفتره يبقى أصل المتعة و غاية لا يدركها إلا لمّا يكون في مثل هذه الحالات ، يأخذ قلم الحبر الجاف ، يرسم قصيدته برفق ، يعالجها كالوليد الحديث ، يشعر أنه تخلّص من ضيق جثم على صدره منذ يومين ، يعاوده شيء من البرْء ، يبتسم ، لا يعرف لماذا إبتسم ؟ يأخذ دفتره بين يديه كمن يخاف أن تطير الكلمات التي خطّها ، في بعض الأحيان يكتب خواطره أو قصائده و بعد قراءتها يقرّر تمزيقها ، كم ندم من مرّة على هذا الفعل ؟ هذه المرّة لن يقطعها سينشرها يختارها عروس ليلته " سهاد الفتى " هذا هو عنوانها و هذه في حلّتها النهائية و هذا الدفتر عربون قرانها به ، قرأها مرّة أخيرة ، لن يغيّر أيّ حرف ستبقى كما نزلت آية حبّه ، لو بدّل حرفا منها لحرّفها ، لا يوجد من حرّف كتابه ، التحريف يأتي بعد الموت ، لا بأس بالتحريف إن مات ، التحريف يعطي نبظا جديدا للآية و يجعلها حدثا .... أكمل طقوسه و رسم آيته كاملة و لم يتدثّر بل شعر يحرارة تسري في جسده ، تالله... هل سيبرأ من هذا الحمل ؟ أيمكن هذا ؟ أيمكن النسيان ليغطّي غيم أسود كل الذكريات الجميلة ، كلّ أحلامه ، كل حضورها الصاخب في منامه ، كل ضحكاتها الرائعة و انبهاره بجمال عينيها القاتلتين ، كل الصبوح الأخّاذ في وجهها و صدرها الذي بهره ، كل كؤوس النبيذ التي شربها على نخبها ، تلك الخمرة التي طهّرته تطهيرا و صفّت روحه و زكّتها ، أيمكن.....؟ . السّابعة مساء رنّ الهاتف ... من يكون يا ترى ؟ لا رغبة له في الحديث فسماءه ملبّدة و هو في حاجة الى الصّمت ...

    يتبع...


    التعليقات
    6 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة