
   كانّه كان في حلم مزعج ، أو كان في قاع بئر ، أو فاجأته الشّمس بنورها في قلب اللّيل ، صوتها  الرّخم عاد لتوّه بنبرته المعهودة ، نبرة تدغدغ   مشاعره ، إبتسم و شعر و كأنّ الجبل الثلجي الذي كان يحمله على كتفيه قد ذاب فجأة ، ها أنه يخرج للنّور و تنجلي الغشاوة من عينيه ، يعتدل في جلسته يتحسّس شاربيه ، تتناسق دقّات القلب ، اللّيل الشتائيّ البارد ينسحب في صمت و يعمّ الدفء أرجاء المقهى ، مجمار النرجيله يزيد المكان حرارة .  
-         أهلا ... و مساء الخير، ما الحال ؟ . هكذا فاجأته بالسّـؤال و هكذا ردّ عليها دون تردّد : 
-         مساء الخير...لا بأس ، أنا في صحّة جيّدة ،  أرجو ان تكوني كذلك  و ...
قاطعته بقولها :
-         أعتقد أنك فكّرت طويلا قبل أن تهاتفني ، لماذا إنتظرت كلّ هذا الوقت ، كدت أيأس من الجواب ، أخبأت الجمرة في يوم واحد لا بل في ساعات ؟  امممم ...كنت أظن أنّك ..... مهمهت  ثمّ صمتت...
  قالت هذا في عتاب خال من أيّ تشنج ، عتْب خفيف سلس ختمته بضحكة مشرقة هادئة فيها من الغنج و الدلال ما جعله يستلذّ العتاب ، بل أنّ هذا العتب هدّأ من روعه و أعاد له ما كاد أن يضيع طيلة هذا اليوم ، فقد عادت في ذهنه صورتها كما هي بل أن هذا اللّوم كان مسكّنا و بلسما و بعث دفئا لذيذا في جسده  في هذا اليوم القارس  . إرتبك ثم تدارك الأمر ، كان عليه أن لا يطيل التفكير و أن يجيبها بما يقنعها و لا  يثيرها ، فهو ليس في حاجة لعتب جديد أو تجافي ، لكن لا يجب أن يقول الحقيقة ، لا يجب أن يعلمها بقسوة هذا اليوم عليه ، لا يجب أن يقول أنه فعلا فكّر طويلا ليجيبها هروبا و خوفا من أي خبر جديد  و لا يجب أن يشعرها أن وقع الصدمة كان كبيرا و قاسيا  ما دامت رائقة و مشرقة وضاحكة و معاتبة فلا فائدة في الرّجوع الى الوراء ، لكن كان يؤلمه أنّه سيكذب ، نعم سيقول ما لم يفكر فيه ، ستكون هذه كذبته الأولى منذ أن أحبّها ، قد يكون إحتفظ ببعض التفاصيل لتفسه قد يكون لم يروي  كل شيء بل وكتم الكثير إما سهوا أو خجلا أو في حالة  أن الشجاعة خانته ، لكنه لم يكذب عليها أبدا ، شعر بمرارة وهو يختلق عذرا كاذبا سيقول أنه لم يكن وحيدا عندما هاتفته ، نعم هذا ما سيقوله و ليحدث ما يحدث ـ إن إسترابت في كلامه سوف لن يقسم سيتجنّب القسم الكاذب ، سيصرّ على أنه تجنّب الردّ عليها لأنّه لم يكن وحيدا في قاعة الجلوس ، لذلك أرجأ الردّ عليها و مهاتفتها لهذا الوقت ، أصابته اللكْـنة و كاد أن ينعقد لسانه و هو يجيبها على سؤالها قائلا :
    - لم أكن وحيدا عندما رنّ الهاتف ، كنت في قاعة الجلوس و معي ... ض...ضيف  من العائلة فخيّرت الإنتظار و مكالمتك فيما بعد ، ثم أن رصيدي من المال كان غير كافي لإجراء المكالمة فاضطررت لتزويده .
   قال جملته الأخيرة بصوت عال و بطلاقة لأنه أحسّ أنه خرج من جوف  الجواب الكاذب الى برّ النّجاة بما أن رصيده فعلا كان غير كافي . أراد الإسترسال في الكلام حتى يتجاوز حرجه من كذبته المبتدعة و ليوهمها بأنّه لم يكن في حالة غضب و أنّ ما صار طيلة هذا اليوم لم يكن كلاما ذي بال . قطعت عليه كلامه قائلة :
- إذا أنت خارج المنزل ؟... المعذرة ، الطّقس بارد ، لم أشأ أن تبيت غاضبا أو ... قلبي عليك أيها الطفل العنيد والصبور.
ردّ سريعا :
-         كيف علمت  و من قال أنني...؟
قاطعته مرّة أخرى قائلة :
-          أنا عرفت هذا من نبرة وداعك لي ، كان وداعا باردا و ثقيلا ، أنا أيضا أعرف نبرات صوتك لمّا تكون سعيدا و لما تكون جادّا في كلامك و لما تكون قلقا أو حزينا ، أنا أعرف صوتك أكثر من أيّ كائن على وجه هذه البسيطة ، أنا أراك كما لو كنت أمامي ، و أفهم تبريرك و تردّدك المخفي ، أتفهّم ما جال بخاطرك ، أتفهّم ما سبّبته لك عن غير قصد ، لا تعتقد أنني سعدت بما قلت ، لا... أبدا ، فاعذرني على هذه العلاقة الصادمة و على هذا... الحبّ المجنون كم نحن في حاجة للجنون ؟ ألا ترى معي أنّ الجنون وحده له تفاسير لبعض الظواهر التي عجز العقل على تحديدها ؟ نحن في حاجة لهذا الجنون لتعديل أوتار النّفس لكي نشعـر أن للحياة معنى آخر غير الذي حدّده العقل ، نحتاج هذا الجنون لنقلّص مساحات العقل التي أحبطتنا و كلّستنا و جعلتنا عبيدا للمفاهيم جاهزة مسبّقا نحن في الأصل لم نساهم في صياغتها فلماذا نتحمّل تبعاتها ؟  أعرف أن لك من الجنون ما يكفي ، و أنك تستلذّ حالات اللاّعقـل  تماما مثلي ... هههههه... أيّها المجنون ، لكنّ جنوني يزيد عن جنونك و أكثر، عاشرته منذ صغري ، و خبرني و خبرْته كان ملجئي عندما يقاتلني عقلي و أشعر أن لا تفسير لما يحدث حولي ، سيدي ، أتراني أخطأت ؟ ها أنت تنحو منْحاي و لا تستدلّ إلاّ بجموحك  و حبّك للخروج عن المألوف ، حالاتي هي حالاتك فاخترْ لنفسك منزلا تحتمي به من حالاتي و اختار لنفسي  ملجئا يقيني من حالاتك ، ستتعب و اتعب ، لكنّه سيكون تعبٌُ جميل ، منذ البداية حذّرتك و نصحتك  فهـل انتصحت يا أيّها العاشق الولهُ ؟... أراك صامتاً هذه المرّة ، أمتعبٌُُ إلى هذا الحدّ   أم هل فقدت قدرتك على الكلام ؟ أعرف هذا ، عرفت من تردّدك عندما هاتفتك ، فهمت أنّك ...أنّك ...إخترت الصمْت ، صمْت الجريح المصاب بسهم  خاطيء قد يكون سهم "كيوبيدْ"  فلا أنت قادر أن تصيب من أصابك و لا أنت قادر على البرْء السّريع ، أنا " بسايكي"  سيّدي قد يقتلني ما يقتلك ، إعلم أنني سأبحث عنك بجنونني  وأن " أفروديت " هي التي ستنقذ هذه القصة الرائعة نكاية في " فينوس " ... 
   لأول مرة تسترسل هكذا في الحديث دون أن تنتظر منه ردّا و لأول مرة يقف أمامها كالتلميذ المشدوه الذي لم ينجز عمله المنزلي ، تذكّر أن عليه أن يتدارك أمره ، قد تكون إستعدّت كما يجب لتلقي عليه درسا في مفاهيم الجنون قد تكون إستحضرت كل درايتها لتثبت أن جنونها لا حدّ له و أنّه مبتدىء لا غير، المهم أنّه شعر أنها تحدثت طويلا و كشفت جوانب لم يقدرها حقّ قدرها  لو لم يترك لها المجال واسعا لبقي دون علم بهذا . وضع يده على جبينه ثمّ إبتلع ريقه و قال :
-         من قال أنني متّ ؟...  أنا أكره الموت حبيبتي ،  أقاتل جنوني فأقهره و يقهرني لكنني أصارع بصمت و في صمت ، لا أحدث قرعا لطبول الحرب ، أقاتل للأنتصارفقط ، يحدث أن يكبو جوادي كبوة التّعب لكنه يقوم و امتطي فلا كأنّه كبى و لا كأنني سقطت ، إن كان هذا موْتا فمرحبا بهذا الموت اللّذيذ... يمْلي عليّ الجنون شروطه فأمتثل لنداء قلبي لأنني أكره الموت ، من منّا يحبّه ؟ لو متنا حبيبتي من سيزرع الوردة و يحمي خاصرة المحبّ ، من سيثبّت الفارس عن ظهر جواده ، من سيراقب قمر العشاق  حتى لا تترمّل السماء ، من يسعف العطشى في صحرائهم القاحلة ، من يرجع للزيتون خضرته  و للنبيذ طعمه القدسيّ بل قل من سيغنّي و من سيلقي شعرا ومن ينصب خيمة للحبيب  و من سيستهويه لحظ قاتل و قدّ مائس وصوت عازف ؟  لو متنا حبيبتي سيجفّ نبع الحياة 
و يعمّ الخراب...آه ...لو فقدنا جنوننا سيفقد البحر زرقته التي أغوتنا و يتحوّل إلى مستنقع قاتل ، ستموت عروس البحراختناقا و سينقرض الصّدف ، و تذوي أمواج البحرو تنكسر المجاذيف و يصبح قاع البحر مقبرة سفن العالم  و أشرعتها أكفانا للغرقى  لذلك لا يجب نفقد جنوننا كي لا نموت 
و لا يجد العالم الوقت لينتهي على الشاكلة التي أردناها و ليس كما ذكرت الكتب الدينية...
  
عم ّ الصمت، كأنّهما وجه لوجه في الجزيرة المقْـفرة " كيوبيد" يواجه قدره و يختبأ في الظلام يتغطى برداء "بسايكي "  و يكسّر سهمه الأخير فلن يصيب بعد اليوم أحدا  ، لاحاجة له بالعشّاق بعد اليوم فكل قصّة بعد هذه ستكون حرثا في البحر و تجذيفا ضدّ الرّيح .  لا مكان الاّ للغة الهمس المتقطّع كأنّ كلا منهما  أراد أن يلتقط نفسا ، شعر بانفاسها الحارة ، كأنّها تأخذ نفسا عميقا ، من عقد لسانها ؟ هي تكره الموت فعلا  و تصعد كالبراق عاليا في السماء  لتضحك من الموت و تعلن الجنون شرعا... فجأة  تكلمت بصوتها الناعم الرّخو المنغّم و قالت :
   - لك أن تعود الآن ، بل يجب أن تعود ، انتطرني غدا  لأمر يهمّك ، سيكون لهذا الهامّ  و قع لذيذ على قلبك ، سيهـزّك الخبر الى العالم الذي تنشده ، فلا تطلب منّي تفاصيلا ودع الأمر الى الغد ، فقد أتراجع أو يحدث مانع ، فأكون كاذبة و هو ما لا أريده لنفسي ... عُـدْ الى فراشك  فالطقس بارد و انعمْ بنوم هاديء و أحلاما لذيذة أنا الآن تأكدت أنّك ستنام هادئا و سينجلي عنك ما علق من الغيم بسماءك ، عـدْ مع إعتذاراتي  ، عـدْ أيّها الولع المجنون....  
    لمّا أكملت المهاتفة أغلقت هاتفها و لم تترك له المجال لأيّ سؤال ، لم تودّعه حتّى ، إنتفظ في مكانه  و وقف ، ما يكون هذا الخبر الهامّ ؟ إحتار لكنه لم يتوجّّس أيّ شيء مكدّر، ألم تقل أنه سيكون للخبر وقع مفرح و سيكون بردا و سلاما على قلبه ؟ ... دفع للنّادل ثمن كأس الشاي الأخضر و كان قد نسي الصداع و آلامه التي خفّت  بقدر يجعله ينام  دون منغّص رغم أن التساؤل لم يفارقه  ، ما يكون الخبر يا ترى ؟   اتّجه مباشرة الى بيته نزع ثيابه و رمى بجسده المنهك  المتهالك على الفراش ناشدا نوما سريعا و هادئًا ... 
                                                                                              يــتــبــع...  
   
                    
                    

 4 التعليقات
4 التعليقات 
 
 
