• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زرقـة بــحـر... و مـوعـد (18)


    لما غادرها أحسّ أنّه ترك نصفه أو أن قوّة ممغنطة تسحبه إلى الوراء و أنّ عليه أن يعود بالسّرعة اللاّزمة حتى لا يطيل انتظارها و حتّى لا يصيبها ملل يفسد مرحها أو حتّى شراهتها للأكل. تساءل وهو في الطّريق و تعجّب كيف لم يشعر بالجوع وهو الذي لم يتذوّق طعاما منذ الأمس، هو هكذا يفقد شهيته عندما يكون مشغولا بأمر مّا أو عندما يكون في حالة سعادة مقتنصة في زمن يصعب فيه اقتناص الفرح ، له تقاليده الخاصّة حتى في لحظات السّعادة القصوى، يحبّذ أن يشرب شيئا عوض أن يأكل طعاما، يكفي كأسا من الشاي الذي نادرا ما يتناوله أو فنجانا من القهوة الصّافية أو عصيرا طازجا أو بعض مقادير من النبيذ الذي يستهويه كثيرا و يجعله أكثر صفاء و أرقّ حسّا و أكثر إقبالا على الحياة وأكثر تذوّقا للموسيقى و أكثر إحساسا بالأمان و الارتياح،لذلك كان أميل إلى القهوة صباحا و إلى النبيذ في المساء لكن رغم حبّه لهذا كان عليه أن يتناول شيئا حتّى لأجلها فليس من اللياقة في شيء أن لا يشاركها طعاما في أوّل لقاء خاصّ لهما.

    عندما عاد إليها وجدها تتلهّى بمطالعة كتاب، لما أحسّت بقدومه أشّرتْ على صفحة الكتاب التي تطالعها حتى تعود إليها مرّة أخرى دون عناء البحث و أرجعته لحقيبتها السّوداء ثمّ قامت مبتسمة و نزعت جمّازتها لتضعها بطريقة تحفظ كيّها على المتكأ الخلفي لكرسيّها قائلة: ألا تشعر أنّ الحرارة ارتفعت في هذه الساعات الأخيرة عكس هذا الصّباح، كنت أعتقد أن الطّقس هذا اليوم سيكون باردا لذلك كنت حذرة في لباسي حتى أتجنّب أيّ طارئ، قالت هذا و كأنها تبرّر سبب نزعها للجمّازة السوّداء النّصف موسميّة. نظر إليها متبسما و قد سلبه جمال زنديها من تحت قميص أسود مشبّك يظهر من خلاله بياض زندها كنجوم مضيئة في عتمة ليل مظلم داكن ثمّ قال: نعم إنّ الأيّام الربيعية الأولى خادعة و أمْيل منها إلى الشّتاء و طقسه المتقلّب لذلك كان حذرك جائزا و في محلّّه على الأقل تجنّبا للزّكام أو لما هو أشدّ، لكنّها حرارة مقبولة و لذيذة على كلّ حال بل و كافية لنزع جمّازة فلولاها لما حُظيتُ برؤية ما كان محجوبا من النّجوم تحت هذا القـميص و " الدونتيل" و أشار بإصبعه الصّغرى إلى زندها و أعلى صـدرها ثم دفع أمامها قـرص " البيتزا" و عبوّة العصير و بعض طبقات من المناديل الورقيّة البيضاء قائلا: تفضّلي مولاتي بالشّفاء، أعرف أنّ الجوع و الحرارة تحالفا عليك في هذه السّاعةّ. قالت: سأبدأ بحرب الجوع أوّلا لأنّني لا أستطيع محاربة الحرارة و أنا جائعةّ فكلّ من حارب بجيش جائع إلاّ و هُزٍم ثمّ سأحارب الحرارة ، قال: ستحاربين الجوع بالأكل هذا مفهوم و بماذا ستحاربين الحرارة ؟ قالت: طبعا بتهوية المكان...أمْمم ما رأيك؟ قال: سأكون معكِ في حربك ضدّ الجوع و مع الحرارة في حربك ضدّها فللحرارة فضل عليّ فقد مكنتني من متعة النّظر لنجوم ليْلك و أنا لست ناكر جميل ثم أنّكِ لو هوّيت المكان لفقدنا الخلوة و أصبح المكان مكشوفا فهل يرضيك أن يكون المكان عُرضة لعين الرّقيب ؟ نظرت إليه قائلة: كفى ثرثرة أتهدّدني أم تهدّد نفسك؟ أعتقد أن عين الرّقيب ستسعفني و ستحرمك من... قالت هذا وهي تأخذ قطعة من "البيزا" بين أصابعها، لم تشأ أن تأكل وحْدها أو قبله فقد مدّت بيدها الأخرى قطعة ثانية في نفس الوقت وأمرته أن يتناولها قبل أن تتناول قطعتها، أشعرته بهذه الحركة أنها لن تتناول شيئا قبل أن تراه يتناول معها و كأيّ رجل شرقيّ و رغم ما كان يدّعيه من أنّه تنازل عن شرقيّته المدسوسة بأنانيّة دفينة فقد أسعده هذا الإصرار على أن يشاركها الأكل بل و أن يبدأ حتّى قبلها رغم ما أعلنته من الجوع الشّديد قبل هذا، كانت في كل مرّة تصرّ أن يتناول معها قطع البيتزا و عبثا حاول أن يقنعها أنّه لا يشعر بالجوع إطلاقا وأنّه يكفيه و زيادة ما تناوله إرضاءً لها حتى لا تشعر بإحراج وهي تأكل وحيدة، لكن إصرارها كان أكثر من رغبته في الكفّ عن الأكل،بدأ له أن إصراره هذا لا جدوى فيه و عليه أن يمتثل للأمر الواقع و أن يشاركها الأكل إلى الأخير، هكذا تقاسما قرص"البيتزا" قطعة قطعة و لمّا أكملاها دفع لها بالقرص الثاني لكنّها أشارت بيدها وهي تضعها على بطنها أنها تكتفي بما أكلت و أنّ جوعها ذهب تماما، نظر في عينيها متعجّبا ثم قال: أكان هذا كلّ جوعك ؟ من سمعك منذ قليل وأنت تشكين من شدّة جوعك يقول أنّك ستأكلين خروفا كاملا،أنت كهرّتنا الصغيرة كثيرة المواء و قليلة الأكل يكفيها نصف سمكة صغيرة لتشبع، كنت أظنّ أنّك أكولة، المهمّ أنّني لن ألحّ عليك لمواصلة الأكل. نظرت في وجهه متعجّبة و قالت: أمااااااانْ... كيف تقول هذا بعد كلّ إلحاحي عليك لتأكل؟ طيّب، سترى أنّني لن ألحّ في أيّ شيء من هنا فصاعدا، قالت هذا بحركة أصابع يدها اليمنى و كأنها تتوعّده ثم ابتسمت و قالت سوف لن أدعوك لتقاسم مشروب عبوّة العصير، و هذه هي العقوبة الأولى، هِيهْ... عرف أنها لم تفهم مقْصده و أن عدم إلحاحه عليها ليس شحّا و بُخْلا و أنّما لمأرب آخر، أخذ المنديل الورقيّ ومسح بها ما علق من فتات "البيتزا" تحت شفتها السّفلى ثمّ قال:أنا قلت هذا حتّى لا أتحمّل المسؤولية يوما مّا، وهنا ردّت متعجّبة: مسؤوليّة ماذا، مسؤوليّة أن يعْلق الفُتاتُ بجانب فمي؟ قال: لا مسؤولية بدانة محتملة فالنساء يحمّلْن الرّجال المسؤولية لشرههم المتواصل،قالت: أتراني بدينة حتّى أنا أعتقد ذلك ؟

    في الحقيقة لم يكن يقصد هذا إطلاقا بل أنه كان يريد التملّص من إلحاح جديد ليأكل معها و لأنّه علم أنّها لن تأكل وحيدة، لذلك انتفض و فهم أنه أساء تقدير مزاحه حيث أساءت فهمه رغم حسن نيّته لذلك استدرك قائلا: أنتِ كما أنت رائقة و رشيقة ثمّ أنك تعلمين جيّدا أنّني لا أميل للنّحيفات رغم أنّني أحترم آراء الآخرينّ، لتتأكّد مولاتي أنّ قوامها جذّاب و أنّ ما يحب عليها فقط هو أن لا تميل للنّحافة...قال هذا و وضع يده على أصابع يدها الممدودة فوق الطّاولة كأنّه يذكّرها أن لا شيء يستطيع أن يبعدها عنه و أنّه يشعر أن شرايينه ترتبط بشرايينها و أنّها تنفرد بصورتها عن كلّ صور الأخريات. نظرت إليه وهي تتفهّم أنّه يكاد يذوب عشقا و أن نار الشّوق لا تضاهيها نار وهي بادية في حركاته و سكناته في همْسه و لمْسه ثمّ قالت: ستشاركني شرب كوب العصير بدون نقاش هذه أوامر مولاتك و لا مجال للعصيان و إلاّّ.... فردّ بسرعة: أمرك مولاتي، و هل هذا هو يومٌٌ للعصيان ؟ لن أنتظر كلّ هذه المدّة لأراك وأعلن عصياني، أبدا، هذا يوم الطّاعة العمياء، ومتى غلب الرّجال النّساء الحسناوات اللّواتي أوامرهنّ طاعة...

    أخذ الكأس بين يديه ونظر في حافّته فرأى أثرا لأحمر الشّفاه الذي لا يكاد يرى لأنّ المكان ضعيف الإنارة، ابتسم بعد أن كاد يشرب من المكان ذاته و أن يمرّغ شفته بأحمر شفتيْها فهو لا يطيق هذا رغم أنّه يروق له رُؤْيتها وهي تضع أحمر شََفتِها الذي يمِيلُ إلى الورديّ الخفيف و الذي لا يكاد يُرَى لتمازجه مع لوْن بشرتِها، أدار الكأس دون أن تنْتبِه إليه ثمّ شرب القدر الذي أشعرها أنّه شاركها كأْسها و بالطّريقة التي جنّبته أن يحمل أثرا على فمه من أحمر شفاهها. أدار الكأس كما كانت في بادئ الأمر ثمّ استدار قليلا كأنّه ينبّهها أنّه بجانبها و أنه لا وقت لكي تسرح بأفكارها بعيدا كأنها وحيدة بعد أن لاحظ بعض شرود ينتابها من حين لآخر كأنّها تستحضر غائبا أو تتابع خيطا من الضّباب، كان عليه أن ينبّهها لذلك نقر بخفّة و بلطف على طرف أنفها بسبّابته ففتّحَتْ رموشها بعد أن أغمضتها و فهمت أنّها شردت و أن شرودها أزعجه و يمكن أنه أشعره بعدم قدرته على ملْء المكان و اكتساح الفراغ الذي يحدث رغما عنه عندها قالت: لا تقلقْ أنا هنا و معك، ثم مذّت يدها و فتحت حقيبتها اليدويّة لتسحب علبة السجائر و أخذت سيجارة بين أصابعها ثم أوقدتها و وضعتها بين شفتيها سحبت نفسا طويلا و قالت من جديد: أعتذر لو أزعجتك رائحة التّبغ فهذا هو موعدي مع سيجارة الظّهيرة التي تنبّهني و تعيد تركيزي، فعلا فقد شعرت أنني أضعت التّركيز و هذا سبب كاف لقلقك و قلقي ...ههْ... الآن سأعيد ترتيب أفكاري. نظر إليها مبتسما و قال: لا حرج في التّدخين فرائحة عطرك المنعش تفتكّ المكان فقط حافظي على هذا النّسق المتباعد بساعات بين السيجارة و الأخرى حتى تحافظي على حيويّتك و نظارتك التي تهمّني فالتدخين الذي يكون سريع النّسق يفقد المرأة إشراقها و أشياء أخرى...قالت: بالله عليك لا تذكّرني بهذا فقد يحدث أن أدخّن بنسق متسارع لمّا أكون قلقة و متوتّرة أو في حالات الغضب لكن لحسن الحظّ هذا لا يحدث كثيرا، على الأقلّ منذ عرفتك...

    حرام أن تكون نزْوة التّدخين سببًا في إطفاء شُعْلتها و إخفاء هذا البشرة النّاعمة و المتورّدة التّي تراوح بين الأبيض الثّلجي و الأصفر الورديّ، حرام أن لا ينبّه فيها إحساسا بالحفاظ على سمات جمالها لأكبر قدر من الزّمن و العمر الممكن، لذلك حرص أن ينبّهها و لو أن ذلك قد يكون سببا في تبرّمها من هذه النّصيحة التي يكرهها المدخّنون عادة. بعد أن سحبتْ عدّة أنفاس ممّا ناصف السّيجارة تدخينًا وضع يده على المِطْفأة و استأذن في إطفاء السّيجارة بحركة حاجبيه فابتسمت و أجابته بالموافقة بحركة رأسيّة. سحبها قليلا من يديْها إليه وقال: هكذا أشعر أنني أقرب إليك لأسمع أكثر دقّات قلبك و أتدفأ بأنفاسك و استنشق عطرك و أستظلّ بشعرك أيّتها الفاتنة، فليكنْ هذا المكان جنّتي و مأواي فقد أرهقني أنّني لا أراك طيلة الفترة السّابقة و لا أدري كم يجب عليّ أن أنتظر لأراك مرّة أخرى قاتلتي و مولاتي فإنّني أخاف هذا الانتظار الجميل. سحبت أصابع يدها اليمنى من أصابعه بينما مسكته بيدها اليسرى بضغط أشدّ على أصابعه كأنها تخاف أن يهرب ثمّ قامت و جلست بجانبه قائلة: هكذا سأكون أقرب إلى قلبك فقد كانت الطّاولة حاجزا بيني و بينك و هكذا نلغي الحواجز بين القلوب، كان يكفي حواجز المسافات التّي أبعدتنا طيلة هذه المدّة، كان يكفي و زيادة... أتراني موْلاتك حقّا ؟ أجاب و قد لفّه عطرها و بهره غنجها العفوي: نعم أنت مولاتي و أميرتي، لا أرى نفسي كاذبا فيما أشعر بعد كل هذا العمر، كان يمكن أن أكون مخطئا لو رجعت بنا السّنين إلى الوراء لكنّ الآن لا، الآن أصبحت أعرف منْبت وجعي و قبس سعادتي التّي بتّ أسرقها بلذّة اللّص القاطع. قالت وهي تتنهّد وقد مال رأسها و تدلّى شعرها عن كتفه: إذا بعد كلّ ما رأينا من هذه الدّنيا أصبحنا لصُوصَ سعادة و خاطِفِي لحظات فرحٍ؟ لأوّل مرّة أحسّ بفخر و أنا أنعتُ نفسي باللّصّةِ و الخاطفة، كان يجب أن نكون كالشّعراء الصّعاليك، نخرج عن القبيلة، قبيلة الكآبة و لفْح الرّيح الباردة، قبيلة الموت جفافا و طاعةً ورضاءً، قبيلة لا نستأنس بها و لا تحمينا، نخرج عنها لنسرق لحظات سعادتنا و نوزّع ما بقي منها على الذين لم يحترفوا هذه اللّصوصيّة وهم في حاجة إليها. وضع يده على كتفها و ضمّها إليه وقال: نعم نحن صعاليك هذا العصر و صعاليك هذه المدينة فليشربوا ماء البحر إن استكثروا علينا صِفتنا و لحظات سعادتنا، أتدرين مولاتي؟ ردّت وهي منتفضة كمن صعقها تيّار كهرباء: أرجوك لا تقلْ مولاتي فهل يمكن أن أكون مولاة و سبيّة، الشيء و ضدّه ؟ كنت أظنّ أنني أملك نفسي، أنّ لي وهجي الذي يحرق مسافات الحزن التي بداخلي لكنّني اكتشفت أنني لصّة سعادة و خاطفة وقت جميل و أحتاجك لكي أشعر أنّني كذلك، ههْ... هكذا أنا إذًا، عذرا، لقد قاطعتك ماذا أردت أن تقول؟ ردّ وهو يبتسم ابتسامة بين السّخرية و الحزن، ابتسامة يكرهها عادة و لا تخرج إلاّ بغير إرادته عندما يفقد أماراته و مراجعه: أتدرين أنّني كالتائه في الصّحراء القاحلة أبحث عن جرعة ماء لأطفأ عطشي والذي صادفه بئر عميق فلم يجد لا دلْوا و لا حبْلا ، فإن نزل إلى قاع البئر ليشرب مات غرقا و إن بقي خارجه مات عطشا فله أن يختار بين الموت الأول أو الثّاني، أنا هكذا سيّدتي، لقد كرهت الموتين فغادرت البئر على عطشي، لقد اخترت أن أموت و أنا أبحث عن الماء خير من أموت وأنظر لماء لا أستطيع نيله، تهت من جديد في الصّحراء فرأيت الموت بعيني كان يخاتلني و يتربّص بي و كنت أخاتله و أتفاداه لعلّني أختار موتا أجمل، كنّا وجها لوجه كنت أعرفه و كان يعرفني كدنا أن نصبح أصدقاء لكنّني رفضت في النهاية، من منّا يريد مصادقة الموت؟ لا أحد على ما أظنّ، كان رهيبا أن تصادف الموت في قلب الصحراء بل كان مريعا أن يصبح رفيق دربك، و كذلك كان مصادفة أنني وجدت قِدْرَ ماء صافي و بارد في هذه الصّحراء الموجعة، كان عليّ أن أسخر من الموت وأن أتحدّاه و لو لحين، لذلك قرّرت أن أشرب الماء قطرة قطرة حتّى أطيل أمد حياتي لعلّني أجد مخرجا حسنا فبهذا الماء البارد الصّافي أشعر أنّني مسلّح ضدّ الموت، و أيّ موت ؟ الموت عطشا. نظرت إليه وقال في دهشة: عذرا لم أفهم شيئا من كلامك هذا. نقر نقرا خفيفا بإصبعه على جبينها كأنّه يوقظها من غفوة نوم ثمّ قال: قِدْر الماء الذي وجدته في الصّحراء و الذي جعلني أتحدّى الموت هو أنْتِ يا قاتلتي لا محالة برمش عينيك. نظرت في عينه مبتسمة ثمّ ضغطت بأصابعها على أصابع يده و قالت: ما أجمل أن أكون قطْرة ماءٍ في الصّحراء و أن أكون حِصْنًا يمنع الموت، الآن فهمت اللّغز، سأرْشَح من عمق رمال الصحراء حتى لا يفرغ الإناء، و أكون ظلّ نخلة لأمنع حرّ الشّمس عنك، نعم، إن رجلا لا يخفق قلبه و لا يملأه الحبّ هو رجل ميّت أو يصارع الموت كل يوم.

    مالت برأسها على كتفه مرة أخرى بعد ارتشفت شيئا من العصير، كان يسمع دقّات قلبها المتسارعة والمرتجفة و ألهبته أنفاسها الخفيفة و نبّهه عطرها فضمّها إليه، كانت رخوة و طريّة كحسناء منحوتة من الصلصال المدرسي التي طالما نحتها وهو صبيّ في الصفّ الإبتدائي و التي كان يعيد نحتها كل مرّة لأنه يكتشف أنّه أحدث عيبا فيها لم يكن في أصل الصّورة،تذكّر كيف كان يخفي تماثيله الصلصالية خوفا من أن يراه أبوه أو أمّه وهو ينحت تماثيل الحسناوات فقد سبق و أن حذّرته أمّه من نحت التماثيل لأنّ ذلك حرام فما بالك لو رأته ينحت صورة حسناء ارتسمت في مخيّلته طيلة صباه ؟ كان يعيد النّحت مرّات و مرّات حتى يحصل على أقرب نحْت لصورتها و كان يفشل لكنّه لم يستسلم إطلاقا لا زالت الصورة مخزّنة في ذاكرته ،إنّها صورة تشبه صورتها لذلك تذكّر تمثال الصلصال للشبه الكبير بينهما.

    سادت لحظة صمت المكان لم يقطع هذا الصمت إلاّ بعض نقرات أصابعها على الطّاولة البنيّة،كلاهما لا يدري أين تاه الآخر، هل إلتقيا لكي يصمتا أو لكي يسرح كل واحد منهما بأفكاره؟ فجأة أحسّ بقطرة ماء دافئة تنزل على ذراعه الأيسر، إهتزّ و ركّز بصره على قطرة الماء، من أين مأتاها؟ هكذا تساءل في نفسه ، نزلت قطرة ثانية، الآن فقط تأكّد من مصدرها، هي دمعة إذا، هكذا قال و بصوت مسموع، كانت مطأطئة الرّأس بشكل غطّى شعرها كامل وجهها، مدّ يدا مرتعشة نحو جبينها ثم رفع رأسها قليلا و أزاح بيده الأخرى شعرها من على وجهها حتى يكشف وجهها تماما ويتأكّد إن كانت حقّا تبكي و أنّ تلك القطرات دموعا أم لا، أبعدت يده لكي تخفي وجهها وراء شعرها، لم تستسغ أن يراها دامعة العينين لكن دمعتها غلبتها مرة ثالثة و رابعة... أصرّ على رفع رأسها و إبعاد شعرها و كشف وجهها، لما رفعت رأسها رأى الدّموع تنزل من عينيها، أحدثت الدموع خطّان أسودان متوازيان على كلتا خدّيها، الدّمعة الأولى التي نزلت جرفت ما اعترضها من كحل عينيها و أحدث ذلك الكحل الخطّ الأسود الذي يبدأ من رمشها السّفلى إلى حدّ ذقنها. خبّأت عينيها بظهر كفّها و ذراعها، إنّها لا تريد أن يراها تبكي و ترفض أن يكتشف ضعفها الأنثويّ الكامن داخلها. لمّا أبعد يدها للمرّة الثّانية رأى أنّ ّالعين فقدت بريقها و إشعاعها وذبلت و مالت إلى الحُمْرة، هاله هذا المشهد، رغم أنّها في غمرة دموعها ضحكت أو تضاحكت حتّى تُذْهِب فزعه و حيرته، عجبا كيف تختلط الدّمعة و الضّحكة؟ هكذا تساءل في صمت ثمّ أخذ منديلا ورقيّا و مسح الخطّ الأسود الأوّل ثمّ الثّاني من على خدّها دون أن يسألها عن سبب بكائها لقد خاف أن يثير وجعها من جديد لو استفسر عن سبب هذا البكاء، لمّا رأت حيرته و جزعه قالت: لا عليك حبيبي، هي لحظة ضعف و خوف عابرة هيمنت عليّ في فترة الصّمت تلك، يصيبني مثل هذا الشّعور عندما أكون في قمّة سعادتي، كأنّني لا أصدّق أنّني سعيدة، خيباتي السّابقة حفرت في ذاكرتي جرحا لا يندمل، لم أجدْ دواءََ شافيا لهذا الجرح، لعن اللّه الخيبة فهي تطاردني كظلّي و تؤرقني حتّى عندما أكون بجانبك، أرجوك لا تغضبْ من خوفي ... أنا متأكّدة أنّي سأهزم الخيبة، ستكون شريكي وسندي في هذا القتال العنيف... نظر في عينيها و مسح على شعرها حتى يطمئنها و قال: لا مكان للخيبة هذه المرّة تأكّدي فأنت إناء الماء البارد الذي وجدته في قلب الصّحراء...اطمئني أيتها النّاعمة فأنا شريكك في هذه الحرب. مالت من جديدا نحوه وتوسّدت كتفه ثمّ أغمضت عينيها كأنّها تطلب نعاسا...

    يتبع....



    التعليقات
    6 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة