• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زرقـة بـحـر... و مـوعـد (20)


    سيقف، سيتحامل، ستخونه كلّ شجاعته، سينتحر شوقا أمام جفونها، أيّتها المبتهلة لآيات العشق لا تقتليه هكذا، سيكون في حاجة لكل ما يبطل هذه الرّغبة في أن تظلّ في مكانها كتمثال فينوس، سيبتهل أمامها كالمريد أو الرّاهب، سيبني معبده في هذا المكان ليكون مزارا يوم يفتقدها، سيحتاج شجاعته من جديد و سيأخذها من أطراف أصابعها، ستكون كاللّيلة المقمرة القليلة السّحب تضيء المكان تارة و تغيب لترجع أكثر إشراقا لرواق المعبد، سيكون الأكثر جرأة بعد فقد الشّجاعة منذ حين، ستتعاقب ألاف الصّور في ذهنه، هل كان سيقول ليتها لم تأت حتى لا يعيش اللّحظة التي لا يريدها؟ لحظة المغادرة، هل كانت تعيش الآسف الحادّ و هي تستعدّ للرجوع؟ لا يجب أن يفقد شجاعته من جديد، يمسك أصابعها الباردة، يرفع ذراعها إلى الأعلى كقضيب من نور أو مصباح علاء الدين ، يبتسم، يجب أن لا تحسّ أنّه يتألّم و أنّ شجاعته تخونه، يرفع صوته عاليا ليخفي مشاعر لا يبوح بها كبرياء و عنادا، يقبّلها من جبينها، لهذه القبلة طعم آخر لا يقدر على وصفه بل أنّه يعجز تفسير معنى أن تقبل حبيبتك دون أن تدري لماذا؟ يجمع كلّ شجاعته بين يديه و يقول لها: " يجب أن نغادر المكان لم يعد لك متّسع من الوقت لتصلي في الوقت المناسب، لا أريدك أن تصلي متأخرة فهذا يقلقني لخوفي عليك ثمّ أن سلامتك أهمّ عندي من ساعة أخرى نقضيها سواء " أشارت بحركة إيماءة أنها توافقه الرّأي ثم سحبت حقيبتها اليدوية و وضعت نظّارتها الشّمسية على شعر رأسها بأعلى جبينها ثم وقفت أمام المرآة لترتّب شعرها و تعدّل رقبة قميصها و تشبك أزراره بشكل أخفى كامل صدرها و عقدها الفضّيّ الذي أنسدل بين نهديها يطلب دفئا يحسده عليه، كان يقف وراءها كجندي ينتظر أوامر المغادرة بينما كانت تراقبه في صورته المعكوسة على المرآة التي أمامها. استدارت إلى الوراء و وضعت يدها تحت ذراعه و دسّتها قريبا من أسفل ضلوعها و أعلى خصرها و قالت: هيّا لنغادر، تأكّد من أنّك لم تنس شيئا. قال: لا أعتقد أنّني نسيت أيّ شيء إلاّ بعض التّفاصيل الصّغيرة للّقاء.

    كانت الطّريق إلى المحطّة قصيرة جدّا، أظهرت خلالها أنّها أكثر قدرة و عزم لتحمّل لحظات التوديع الثّقيلة أكثر منه، سألته في الطّريق قائلة: أراك خيّرت الصّمت كأنّك أضعت شيئا عزيزا أو كأنّك غبت في نهاية الرّحلة الأولى، هل أتعبك أن تسرج أحلامك و تستعدّ لمغادرة سعيدة؟ على الأقلّ سعيدة كما أراها ما دُمْتُ قُرْبك و ما دام قلبك يضخّ نفسا ممّا أعتقد أنّه ينعشنا كي ندوم للحظات أرْحب و أسْعد ، يجب أن ندوم لأجل كلّ الذي نحبّه فأسرع خطاك كي نصل للمحطّة كما أسرعت و أنت تستقبلني هذا الصّباح .

    تثاقل في مشيته كأنّه يحمل صخرا، لم تطاوعه قدماه، أحسّ أنه في حاجة لمن ينهي هذه اللّحظة التي كان يخافها منذ أن انتظرها هذا الصّباح، لم يكن يعلم أنّها كذلك تشاركه هذه الرّغبة في أن تغيب مرارة لحظة الفراق دفعة واحدة فقد كان كلّ شيء رائع و كل شيء أنهاه قدوم هذا المساء المتعجّل. أمسكته من جديد من أصابعه و رجّته حتى ينتبه و يزيح هذا التجهّم الذي ظهر على تقاسيم وجهه ثمّ قالت: هل كنت تنتظر أن لا أعود هذا المساء؟ كأنّك تحلم أراك الآن كطفل صغير الذي تغلبه رغبته في تملّك لعبة يحبّها،أتعلم أنّه تعجبني في بعض الأحيان رغباتك الصبيانيّة و تغضبني في بعض الأحيان؟ ثمّ أنّه ما هو إلا اللّقاء الأوّل يجب أن تفكّر كم كان خفيفا و رائعا و شيّقا و كم تمتّعنا بهذه اللّحظات السّعيدة التي أرجو أن لا تختمها بهذا التقطيب الذي ظهر فجأة جبينك منذ خروجنا؟

    أحسّ فجأة أنّه كطفل صغير ترضيه أمّه و ترتّب على شعره حتى يقبل ما لا يريد أن يرضى به، تساءل في سرّه " هل صغرت في عينها عندما أسأت ختم النّهاية لهذا اللّقاء الملائكي المغري أم أنّ أنانيتي غلبتني فرفضت نهاية لهذا الموعد". كان لهذا التفكير ما يجعله يرغب أن تدلّله كالوليد الجديد بين أحضان أّمّه و أن تلاعبه حتى يرضى تماما كالطّفل لكنّه تراجع، فقد كان يكفيه أن يتواعد معها في يوم آخر و في مكان آخر ليؤسّس لقصيدة عشق جديدة و يبنى حروف قصّة عشقه لها كما يشتهي. وضع يده على أعلى خصرها أحس أنها ترتجف كالسّمكة بين أصابع صيّاد، أخذ نفسا طويلا كأنّه يجمع ما بقي من شجاعته وقال: سوف أراك في القريب العاجل، أتعلمين كم أنا في حاجة لقبلة طويلة، الآن.. نعم الآن لولا أن هؤلاء المارّة الذين سوف يرشقوننا بالنّظرات التي تفسد لذّة القبلة؟ لا يجب أن تعتقد أن ما بداخلي خمد بل زاد اشتعالا ، كم يغريني أن أحتفظ بك كدرّة مكنونة، لكنني أعرف أنه موعد له نهاية و أنّه يجب عليك أن تعودي ...

    سأنتظرك كأنّي لم أرك و أنصب خيمة عشقي على الرّبوة و أرفع عمودها حتّى لا يرى النّاس خيمة غيرها و أكسر شعاع شمس المساء على طريقك لتضيئه من هنا إلى حيث تسكنين و أضمّ كل أطراف شوقي و خلجات صدرك التّي كنت أسمعها منذ حين لأحتفظ بوهج نار تتعبني لكنّ دفئها يغريني كعاشق النّار و سأبني جملا ترتقي لروعة اللّقاء القادم على نحوٍ لا تمحيه مدّة الانتظار لعلّ ذلك يجعلني أقدر على الصّبر و على ليّ ذراع هذه الرّغبة الجامحة في أن لا تفارقيني أبدا . نعم سأنتظرك كأنّنا لم نتواعدا و لم أرك لأنّ هذه المساحة السعيدة التي سرقناها بعد طول إنتظار لم تكن كافية و حلّ محلّها شوق جديد يا جميلة العيون، يا أنت، يا التّي مرّت في يومي هذا كالنّسيم الخفيف في قيض.

    لم تقل شيئا ما عدى إشارات تطمئنه و تفهمه أنّها تعلم ما يجول بخاطره و صدق كلامه و أنّها ستعود محملة بشوق أكبر و أنّها ستحرس رباط هذا النبيل من المشاعر التي في صدره و صدرها من كل الأمواج العاتية و قرصان البحار المارد فهي أعرف بالبحر منه و أكثر حرفة في شقّ العباب و اجتناب شباك الصيّادين، عاودتها الرّغبة في أن تساعده إنهاء بعض ألمه التّي أحسّته من رغبته في الصّمت رغم تظاهره باللاّمبالاة فقالت: يحب أن تعود للبيت مباشرة حتى تحفظ قطعة "الكايك" في الثلاجة كي تبقى صالحة لأكثر أمد معقول، سأهاتفك عند الوصول فلا تتعجّل الهاتف لكن كنْ على يقين أنّني سأفعل هذا منذ وصولي ، أظنّك ستنام باكرا لما أراه من الإرهاق الذي بدا عليك. فهم أنّها تعدّه بذكائها المعهود للحظة لا بدّ منها فشاركها فيما أرادت بإيماءته المتكرّرة و ابتسامة يعلوها الذّبول...

    عندما و صلا إلى المحطة كان كل شيء شبه جاهز و لم ينتظر طويلا فقد صادف حظّها أنّ وصولها ناهز ساعة السفر التي لن يبقى منها إلاّ بعض الدقائق عندما همّت بالصّعود لوسيلة النّقل التّي بالانتظار حطّ يده على كتفها و قبّلها دون أن ينظر في عينيها خوف أن تخونه شجاعته أو أن تحسّ بوهن يعتريه بعدها ساعدها بيده في الصّعود إلى مكانها ثمّ نظر إلى من كان بجانبها امتثالا لغيرته المعتادة التي لا يستطيع لها دفعا فاطمئنّ نوعا مّا و نظر في وجهها لآخر مرّة و رفع يده في تحيّة لطيفة منه و قفل راجعا متجنّبا أيّ إلتفات و راءه لإصراره على مغادرة سريعة و حاسمة...

    عندما غادر المكان قرّر أن يرجع مباشرة لبيته، لا حاجة له بكأس نبيد في هذا الوقت فلا شيء ألذّ من هذا اللّقاء الذي يضاهيه أيّ نوع من النّبيذ، وصل بيته نظر في أرجاءه ثمّ دخل المطبخ و وضع قطعة "الكايك" في الثلاّجة تماما كما أوصته ثمّ عاد إلى قاعة الجلوس و رمى بجسده فوق الكنبة ناظرا إلى سقف البيت. أغمض عينيه ليعيد ترتيب أحداث هذا اليوم حتى لا ينسى تفاصيلها و يحفظها في شريط ذهني. الموسيقى الهادئة هذا فقط ما كان ينقص هذا اللقاء هكذا تمتم في تبسّم و قد ذهب عنه ضيقه الذي شعر به و هو يغادرها. تمدّد قليلا في تثاءب خفيف و تذكّر أنّه لم ينزع حتى حذاءه فقد كانت رغبته في الإرتخاء و أخذ نصيب من الرّاحة أكثر من أيّ وقت مضى،هو يوم ليس ككل الأيّام وهو غروب لا يضاهيه أيّ غروب لم يشعل حتى الفانوس الحائطي لأنّه شعر أنّه في حاجة إلى غشاء من الظّلام يجعله في حِلٍّ من أيّ مراقبة و ليترك العنان لأفكاره و خيالاته التّي لا تعرف حدّا.

    رنّ الهاتف فجأة، بحث عن مصدر الرّنين ثمّ تذكّر أنه في جيب المعطف المرمي على طاولة قاعة الجلوس القريبة من الكنبة، سحب المعطف إليه وأخرج الهاتف ونظر في شاشته بكل لهفة وتبيّن إسمها و رقمها فكانت هي، نظر في السّاعة الحائطيّة، مرّ ما يزيد على الساّعتين منذ أن غادرت " قد تكون وصلتْ" هكذا قال و ضغط على زرّ الاستماع. استبقته بضحكتها المعهودة المنغّمة غنجا و دلالا و قالت: " أطمئنك، لقد وصلت بخير و إنّني على بعد أمتار من سكناي، لم تكن السّفرة شاقّة كما اعتقدتُ فقد رافقني فيها..." ثم صمتتْ. إنتفض من على الكنبة وجلس ثمّ قال: من رافقك ؟ قالت : الكثير، الكثير، اللّحظات السعيدة التي قضيناها معا هذا اليوم و أحاسيس من الغيرة التي ارتسمت على وجهك بشكل مُلْفت و ظاهر للعيان و أنت تغادرني آخر مرّة في المحطّة، ألم يكن هذا كاف لتكون الرحلة مريحة ؟ فهم أنّها تمازحه لاعتقادها أنه مازال منقبضا كما لاحظت و هما في الطّريق إلى المحطّة و لتفرغ شحنة الغيرة التي اعترته لسبب لا زالت تجهله فقال لها: حمْدا على السّلامة، الآن فقط أستطيع أن أنام بهدوء و في راحة بال، أرجو لك ما لذّ من الأحلام و ليلة سعيدة ثقي أنّ سعادتي لا توصف رغم أنني أحسد وسادتك بل كلّ سريرك...ثم ضحك فردّت قائلة: تصبح على صباح مشرق و قطعت المكالمة.

    أرجع الهاتف على سطح الطّاولة ثمّ سحب معطفه ليضعه على الشمّاعة، عندما همّ بهذا لفت انتباهه و جود شعرة طويلة عالقة قرب رقبة و كتف المعطف، أخذ الشّعرة بين يديه و تفحّصها ثمّ ابتسم للمصادفة التي لم ينتظرها فقد كانت إحدى شعرات خصلة شعرها فلونها وطولها يدلاّن قطعا على ذلك، وضع الشّعرة على المنديل الورقيّ الأبيض ليتبين اللّون أكثر ولمّا تأكّد من ذلك طوى المنديل وبداخله الشّعرة و وضعه بجيب القميص الذي يرتديه، كان قميصه بدوره يحمل رائحة عطرها التي لم تفارقه طيلة العودة لبيته، علامتان عزيزتان عليه يصحبانه الآن دون أن يقصد ذلك، شعرة من خصلة شعرها أبت أن تفارقه و عطرها الوهّاج الذي علق بقميصه عندما تعطّرت قبل مغادرة المكان، تذكّرها و حضرت صورتها من جديد كأنّها أمامه، عاوده الحنين إليها، أرجعته الشّعرة و عطرها العالق بقميصه لنقطة العشق الأولى لكنّه ابتسم، قد يكفي هذا الأثر منها لحين لا يقدّره...

    عليه أن يذهب لينام فقد غالبه النّعاس و لم يعد قادرا على السّهر ثمّ أنه شعر بإرهاق و رغبة جامحة للنّوم. توجّه لسريره و نزع ثيابه ليرتدي بُدْلة النّوم. عندما نزع قميصه لفّه برفق و أخذ غلافا بلاستيكي من درج حافظة الملابس ثمّ وضع القميص فيه، كان يريد بهذا أن يحافظ على العطر العالق به لأقصى وقت ممكن ويحفظ الشعرة داخل المنديل في جيب القميص ، هكذا قرّر أن يكون القميص مزاره الصّباحيّ والمسائيّ كلّما اشتاق أن يشمّ عطرها أو أن يداعب شعرها و هكذا تكون معه في بيته هناك قرب سريره صامتة و سجينة درج حافظة الملابس رغم أنّه لا يرضى لها أن تكون حتى سجينته لكنّ غيرته صوّرت له سجنا جميلا، سيتعهّدها متى عنّ له هذا و تأتيه في عمق نومه كملاك طائر يحطّ على وسادته و بعدها تندسّ بين ذراعيه . ارتمى على سريره و احتمى بغطائه الشّتوي و أغمض عينيه مستعرضا كل وقائع اليوم حتى غلبه النّعاس فنام كطفل صغير...

    هل نامت بدورها، هل أرهقها هذا السّفر هل أقتحم ظلّه سريرها و زرع وردة قرب و سادتها و طبع قبلة على أسفل شفتها هل حرمها نومها ؟ هل تظاهرت بنعاس كاذب حتى تثيره وتدعوه إلى وسادتها. متى لم يحدث هذا تكون نئوم إلى حدّ لا يوصف و تشبه كلّ خاليات الذّهن اللّواتي لم يطرق طارق قلبهنّ...

    يُتْبع...




    التعليقات
    7 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة