• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زرقـة بـحـر... و مـوعـد (24)

      لم ينم ليلته كثيرا كما يجب أن ينام أيّ مُتْعب فتوتّره الذي أخفاه و كتمه إتّقاء عين شامتة أو حتّى هروبا من الحقيقة المُرّة أو خجلا من نفسه لم يعمّر طويلا. لم يكفه قبس الأمل في آخر كلامها عندما همست في أذنه " عدْ هانئ البال، ما هي إلاّ سحابة صيف " وهي تستعدّ للرجوع لمدينتها بعد يوم عاصف متقلّب بارد لم يخطر على باله و لم يره حتّى في أقسى حالات أحلامه المرعبة، فهذا القبس يشعّ مع كلّ زفرة و يخبو مع كل صمت و وجوم. لم يكن هذا القبس كاف ليذهب الحالة التي يعيشها و شعوره بالعجز التّام أمام حالة فريدة من نوعها.ظلّ ينتظر شعلة النّور التي تضيء طريقه إليها وهو ما يحبّذه أو تضيء طريق المغادرة الذي لا يتمنّاه. "لأنتظر و أرى، لماذا يضيق البال هكذا عند شعور بذنب لم أرتكبه و أتسبّب فيه" هكذا كان يردّد في داخله عندما تستبدّ به حالة التوتّر و الاكتئاب ...

       كان يحدّث نفسه بما يطمئنها في لحظات الوهن و الشرود بأنّه سيراها و لو ليوم واحد و بعدها سيرحل، سيبحث عنها في كل شوارع مدينتها و أحياءها، في حدائقها و مقاهيها و مطاعمها و في كلّ مكان و متى وجدها سيطلب منها توضيح كل التفاصيل الصغيرة و التي تراها لا معنى لها، لأن بعض هذه التفاصيل تؤرّقه ثم بعدها يقرّر ما يراه مناسبا و بالشّكل الذي يحفظ ماء وجهه لأنّه لم يراهن أبدا في حياته على ماء وجهه ولأنه يعتقد أنّه حصنه الأخير الذي لا يجب أن يخسره.

       لم يرتّب جدول عمله اليومي بل قرّر أن يذهب للعمل باكرا على عكس عادته و أن يحتسي قهوته الصّباحية في مقهى مجاور فلا حاجة له بالذّهاب إلى مشرب مقرّ العمل، هكذا يمكنه الجلوس وحيدا و دون مضايقة ممكنة من أحد الزملاء و هكذا يمكنه أن لا يرى أحدٌ ضيقه و تبرّمه.

       لمّا وصل للمقهى طلب قهوة سريعة فقد سرّه هذا الصّوت الملائكي للمغنّية " فيروز" الذي يصدح من مضخّم صّوت المقهى ينعشه و يذكره بصباه لما كان ينهض صباحا على صوتها الذي يُبثّ من المذياع المنزلي للذهاب إلى المدرسة، لم يكن وقتها يعرف جيّدا اللّهجة الشامية اللبنانية لكن خفّة اللّحن و حلاوة الصوت و صفاءه جعله يحفظ جلّ أغانيها دون أن يفهم معنى الكلمات و بعد أتقن فهم اللّهجة اللبنانيّة في سنّ شبابه الأوّل أزداد شغفه بأغانيها و أصبحت مبعث راحة نفسيّة و إقبال شره على الحياة و إشارة استبشار و تفاءل بصباحه سواء في الدّراسة أو بعدها في الشغل . أنْسَتْهُ الموسيقى و الغناء الفيروزي قلقه و ضيقه و أصبح يترنّم و يردّد معها بعض أغانيها الحلوة حتى أرتفع صوته بمقدار جعله يخجل لأنه لم يكن و حيدا في المقهى. لم يشأ أن ينهض من مكانه حتى يتمّ سماع الأغاني المُذاعة و لمّا أعلن المذيع حلول السّاعة الثامنة صباحا و انطلاق نشرة الأخبار التّي كانت جلّها أخبارا بائسة، الموت في اليمن و ليبيا، الدّماء و الدمار في أفغانستان و باكستان، مصادرة الأراضي الفلسطينيّة من طرف العدوّ الصّهيوني و تململ الشارع السياسي في المغرب... لا شيء يسرّ السّامع لذلك قام من مكانه و ترك ثمن القهوة على الطّاولة ليلتحق بعمله و يذهب مباشرة لمكتبه.

       إنتهى زمن العتب و عليه أن يستعدّ ليقلب الصفحة فقد قاوم رغبته في أن يهاتفها و نجح أخيرا فيما فشل سابقا، سيصبر صبر القانطين فلن يشمّ عطرها و لن يلامس عقدها ، لن يغريه بعد اليوم صوتها و لا شيء آخر فيها أو منها و لكن جرحه لم يندمل فقد نجح حقّا في المقاومة و الصّبر لكنّه فشل في البُرء، عليه أن يتعوّد العيش بلا قلب كالبركان الهامد ستتفحّم كل مشاعره و يصبح كرجل بلا عنوان أو هويّة، سيتمرّن على هذا الوضع الجديد حتى يصبح كنسر وحيد على تلّ صخري يحلّق في الفضاء و يعود منفردا لعشّه المعزول لا يهمّه عواء الذئب و لا صمت الجبل الصخريّ.

       شعر في نهاية الأمر أن الكثير من الصّمت يساعده على استيعاب الممكن و المستحيل فالصّمت وحده سيّد الأوقات العصيبة، حتى الموسيقى التّي لا تفارقه و التّي لا يستغني عنها لا تعادل لحظات الصّمت، سيستأنس بهذا العشق الصّوفي إلى ما لا نهاية له و سيتعايش و جرحه قدر عمقه و سيعمل جاهدا لفتح باب النّسيان الجميل إن وجد هذا، فيا أيّتها المرأة التّي وجهها كالنّور، كالقمر الذي غازله في صباه، دعه و شأنه فكما أنّ الحبّ يدعو فجأة فإن نواقيس المغادرة تدعو العشّاق إلى النسيان، حتما أنت لا تعرفين هذا الإحساس فلو كنت هكذا لما تركت كتاب العشق بلا أحرف، لذلك خذي كتابك عنه فمملكة الصّمت هي سيّدة الممالك وهي الحاكمة بأمرها عندما يعتزل العشّاق..

       يا أهل المدينة التي جابها مشدوها و التي حملوها إليها مكرها ذات يوم، خذوه إلى ما شئتم إلى أيّ مكان آخر لو أردتم، لا يهمّ سيسوّي اليابس بالأخضر و سيجمع أشلاءه المبعثرة لينهي حالة العشق المدمّر... و بعد، قد يصبح وجوم المدينة جزءا من وجومه ثمّ لماذا لا تجمعها إلاّ ظاهرة الوجوم؟ ظلّ يراوح بين العشق و اللاّعشق بين الذكرى و النسيان بين لون الورد و لسع شوكه بين ما يريد و ما لا يريد... ظلّ يحاول و يعيد المحاولة كي يجد طريق النسيان لكنّه لم يكن مقتنعا بأنّه يسلك طريق النسيان فعلا.

      كان الوقت يمرّ ثقيلا لكنه يمرّ كما توقّع على أنّ الصّوت "الفيروزي" الصّباحي أخرجه من الدائرة الفارغة و من التقوقع، كان بحقّ مفاجأة سارّة فقد كان يحتاج أيّ خيط يتعلّق به للمرور إلى حالة أفضل. لم ينتبه إلى السّاعة العاشرة صباحا عندما مرّت دونها و دون صوتها في الهاتف،عندما تتطلّع إلى السّاعة و عرف الوقت شعر بمرارة و بأسى و عنّ له أن يهاتفها لولا كبرياءه الذي يمنعه من هذا، فلن يطاوع هذه الرّغبة الجامحة لسماعها سيرى متى تنجلي الغيمة و أيّ ريح ستحملها؟ رجعت صورتها أكثر حضورا في مخيّلته بعد أن ظنّ أنّه تناساها و نجح في المرور لضفّة النسيان، يجب عليه أن يفعل أيّ شيء ليمرّ هذا اليوم رغم ثقله.

       أنهى مهامّه في الشغل وعاد مع المساء إلى وسط المدينة فرغم أن مرور السّاعات كان صعبا عليه لكن في نهاية الأمر جاء المساء و حان موعده مع جولته المعتادة في الشّارع الرئيسي للمدينة ثم بعدها يجالس أصدقاءه في المقهى المشرف على بائع الزّهور . كانت الأمور تسير بوتيرة عاديّة مع أن الحركيّة في الشارع على أشدّها فالكلّ يسرع خطاه لقضاء مأربه و العودة سريعا للبيت، كان يرى في عيون المارّة بعض الخوف و التوتّر الجليّ فالأمور الأمنيّة ليست على ما يرام و منظر الأسلاك الشائكة حول بعض المؤسّسات الحكوميّة و العربات العسكرية و سيّارات الشّرطة لا تبعث على الاطمئنان فسكّان المدينة لم يتعوّدوا على هذه المشاهد من قبل و لعلّ هذا هو أحد أسباب التوتّر بل لعلّ هذا ما جعله يختار المقهى المقابل لبائع الزهور لأنّه لا يحتمل رؤية البوليس فقد كان يرى فيه جهاز قمع و تعدّي على الأفراد.

       عند الغروب، بينما كان يهمّ بالرّجوع لبيته، رنّ جرس الهاتف، ظنّ في البداية أنّه أحد الأصدقاء الذي عادة ما يتّصل به قصد السّهر و العشاء خارج المنزل، لم تكن له رغبة في هذا لذلك قرّر العودة للبيت و كان على استعداد لأن يرفض أيّ اقتراح مهما كان الصّديق، فحاجته للإنفراد و طلب النّوم كانت كبيرة ثم أنّ حالته النفسية لا تشجّع على السّهر. سحب الهاتف بتثاقل من جيب معطفه و دقّق النظر في شاشته ثم وضع كفّ يده على جبينه لما تأكد أنها هي التي على الخطّ، ليس في عادتها أن تتصل به في مثل هذا الوقت بل نادرا ما كانت تهاتفه في المساء،أصيب بنوع من الشرود الذهني و كاد ينسى أن يردّ عليها بما أنّه لم يتوقّع المكالمة منها ، كان يتوقّع أن تكلمه هذا الصّباح و ليس في المساء،طاوعه إصبعه و استجاب الهاتف و فُتِحتْ المكالمة لتوّها فإذا هو صوتها.

       يتراجع و يعيد الجلوس على المقعد الذي همّ بمغادرته بالمقهى، عاوده الحنين إليها رغم أنّه تألّم طيلة يومه و ما سبقه، لكنّه في هذه اللّحظة قرّر أن يتجاوز اللّحظة الباهتة إلى لحظه الحياة خاصة لمّا كلّمته و كأنّ شيئا لم يحدث.

        قالت بعد أن حيّته بكل لباقة: ألم تعد بعد للمنزل؟ إنّني أسمع منبّهات السيّارات كأنك في طريق العودة ؟

       أجاب: لا ... مازلت في المقهى، لقد كنت على وشك الرجوع للمنزل، أغراني المكان فخيّرت الجلوس وحيدا هنا، أتدري؟ كنت أتمنّى أن أكون بائع زهور أو صاحب محلّ لبيع العطور كما أنّ للرّبيع حضوره الخاص عندي، هو أجمل الفصول لعل زهوره هي التي جعلته محبّبا بالنسبة لي، أعرف أنّك تفضلين فصل الصّيف، أعلم أن للبحر أحكامه في نفسك لذلك فضلت هذا الفصل.

       قالت: نعم هذا صحيح لكن هذا لا يعني أنّه لا يغريني فصل الرّبيع، فالبحر جميل في كل الفصول حتى و هو مضطرب و هائج، أعلم أن خضرة الربيع و زهوره سبتك كما سباك لون الصّنوبر و الإكليل و الزّعتر، لكن هذا لا يضاهي زرقة بحري و رمله الذّهبي، سترى هذا بأمّ عينك و ستعذرني و تتفهّم عشقي لهذا البحر.

       فهم أنها أرادت بهذا الحديث الذي تعرف مسبّقا أنه يريحه أن تتجاوز العتب و كل الأسئلة المحرجة. " هي غيمة صيف " هذا ما ظلّ يردده في صمته، لذلك قرّر أن يطوي الصّفحة و أن لا يتابع الغيمة بل و ينساها، لكن تساءل لماذا أصرّت أن يرى بأمّ عينه جمال بحرها و صفاء زرقته؟هل كانت تشكّ في قدرته تعيير درجات الجمال في الأزرق المترامي قبالة مدينتها؟ أم أنّه استفزّها لدرجة الغيرة؟

      قاده هذا الإصرار على فهم مقصدها من ضرورة تفهّم حبّها للبحر أن يسألها مجدّدا:

    - أفهم من حديثك أنك تريدين شيئا محدّدا، ما هو بالضبط ؟

    - كنت أودّ أن تفهم مقصدي في حديثي منذ مدّة، لكن لا أدري هل تجاهلت هذا أم أنّ الأمر مرّ دون يثير انتباهك و الحقيقة لم أعهدك هكذا ...

    - تعلمين أن فهمي لما بين السّطور و بواطن الكلام يخونني في بعض الأحيان إن لم يكن في جلّها... و هذه المرّة حدث هذا للآسف فهل لك من توضيح حتّى تنيرني؟

       أجابت بكل جدّ و كأنها استغربت من غياب فطنته التي اعتادتها فيه حتّى شكّت في جدّية كلامه لولا أنّها ارتأت جانبا من صدقيّة كلامه:

    -ألم تفكّر يوما في زيارة مدينتي و رؤية بحري، كيف أزورك و لا تزورني؟ لو لم أكن أعرفك جيّدا، أعرفك تماما كأصابع يدي و خطوط كفّي لشككت في كلّ الأشياء التّي حدثت وصارت بيننا، أتتصوّر أن العاشق المغرم لا تأتيه لحظات شكّ و ريبة؟ لتعلمْ أن هذه الرّيح، ريح الشكّ و الرّيبة هبّت عليّ في المدّة الأخيرة، أعترف أنّها لم تقتلع أوتاد خيمتي لكنها زعزعتها لدرجة أثارت قلقي، ألا ترى أنّك تأخرت كثيرا؟ أكان عليّ أن أبوح بهذا وهي رغبتي الشخصيّة التّي كنت أظنّ أنك تشاركني فيها؟ الذي يحبّ يا سيّدي يأتي و لا ينتظر الزّيارة، ألا ترى هذا ؟ على كل حال أعتذر على صراحتي و جرأتي للتعبير عمّا يختلج في صدري منذ أيّام، إن إضاءة الزوايا المظلمة ضرورة لتتضح الرؤيا و يعمّ النّور المكان وهو ما يتيح كشف التفاصيل، التفاصيل التي تؤرّقني أيّها النّاسي ...

       حقيقة لم يكن لوما و لا عتابا و لا تأنيبا بل كانت صفعة، لم يخطر أبدا بباله أن يفكّر في زيارتها و قد تكون محِقّة في هذا التأنيب لكنّه كان يكره زيارة المدن الغريبة يكرهها لأنه يجب أن يعرفها جيّدا، هل كان سيرتاح لو زارها في مدينة يكاد يجهلها و لا يرتاح إليها منذ شبابه الأوّل؟ صحيح أنه زارها فيما سبق و ارتبطت زيارته بذكريات سيّئة، ذكريات تركت جراحها وخدوشها في دفتر ذكرياته السّوداء لذلك لم يفكّر في زيارتها... لكن ما عليه أن يفعل الآن هل يلقي بهذا الدفتر في سلّة المهملات؟ هل ينسى ما حدث في يوم مّا بكل هذه السّهولة؟ وهل له القدرة على ذلك ...؟ 

                                                                ... يـتـبـع.
















































    التعليقات
    9 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة