• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زرقـة بـحـر... و مـوعـد(25)



    كيْ يزورها، يجب أن يجمع شتاته وأن يتخلّى عن ذكرياته القديمة المؤلمة، يجب أن يدفن نهائيا تلك الصفحات السوداء المظلمة و التّي يعود عهدها إلى شبابه الأول كما يجب عليه العمل على نسيان قصّته الموجعة الثانية التي تعود إلي عهد غير بعيد... يجب عليه أن يجد القدرة على النسيان حتى لا تفسد عليه هذه الذكريات لقاءه الأول بحبيبته في مدينتها. يا الله، حادثتان مؤلمتان غيّرتا تماما مجرى حياته، تساءل وهو يحاول التخلّص من ذكرياته التّي اقترنت بالمرارة وبالألم لماذا حدث هذا و في هذه المدينة بالذّات؟ كيف بدّلت الحادثتان حبّه للمدينة إلى ازدراء و احتراز منها؟ هل هذه المدينة طالع سوء عليه؟ كان يكره التطيّر و الأحكام الجاهزة لكنّه شعر أنه يكاد يصدّق هذا، لحظات الضعف و مرارة الذكريات جعلته هكذا، كان قد عرف البحر فيها و عرف السمر الشاطئي على رمالها، فجـأة تذكّر ما كاد ينساه، كلّ حادثة على حدة بكلّ تفاصيلها، كأنّها وقعت البارحة،أكثر من عشرين سنة مرّت على الحادثة الأولى،كان في أوجّ شبابه، يعشق السّفر الجماعي و الرحلات التنشيطية لذلك قرّر أن يزور المدينة ذات صيف، حجز وقتها بيتا في مركز للتنشيط الشبابي بسعر تشجيعي كان معه ثلّة من أصدقائه و صديقاته من مدينته الأمّ الذين حجزوا بدورهم بيوتا مماثلة، لم يكن يوجد أي تفاوت في الأعمار فقد كان أكبر فارق لا يزيد عن ثلاث سنوات بينهم، كانت الرّحلة رائعة و الإقامة مريحة، البحر و السّباحة و السّمر و الموسيقى و التّجوال و المطاعم و العلب اللّيلية... كل شيء كان على ما يرام على امتداد عشرة أيّام كاملة بأيامها و لياليها، عند رجوعه من الرّحلة كانت وشاية كاذبة لا أساس لها من الصّحة كافية لتهدم صرحا من الأحلام وتفكّ رباطا عاطفيّا هو الأوّل في حياته و دام ما يزيد عن ثلاثة سنوات... هذه قصّته الأولى الجادّة والخارجة عن قصص المراهقة و أوهام العلاقات العرضيّة، كل شيء سقط فجأة و دون مبرّر و دون تفسير مقنع سوى وشاية واهية، بعدها تحوّلت تلك الرّحلة إلى حلم مزعج فقد كره المدينة التي زارها و كره الرحلات الجماعيّة و أصبح أكثر احترازا و أقلّ عفوية مع النّاس، كلّ شيء تبدّل في حياته و لم يعد يذكر من تلك الرحلة إلاّ الوشاية الكاذبة التي كانت سببا في نهاية قصّة حبّ رائعة.

    بعد عقدين من السّنين عاد للمدينة مجدّدا رغما عن أنفه لكي يكون إلى جانب أحد أفراد عائلته في صراعه المستميت و القاسي مع مرض عضال، صراع انتهى بهزيمة مؤلمة و بانتصار المرض، فقد على إثرها شقيقه بعد ثلاثة أشهر من الصّراع و قد ترك هذا الموت جرحا لا يندمل و ألما لا حدّ له،

    لذلك لم يفكّر أبدا في زيارتها بعد هاتين الحادثتين، كأنّه كان يريد أن يهرب من ألم الذكرى و مرارتها، فكّر جيدا، تذكّر تأنيبها له لعدم مبادرته بزيارتها عندها قرّر أن يروي لها تفاصيل الحادثتين و ما حام حولهما من آلام فقد تعذره و تتفهّم السّبب الحقيقي لإحجامه على زيارتها في مدينتها وقد تعفيه من هذه المعاناة و آلام الجرح، ظلّ يفكّر مطوّلا، هل جبن لهذا الحدّ ليلغي زيارته لها؟ ثم ماذا لو طوي هذه الذكريات و شدّ على قلبه كرجل شجاع يقدر على التجاوز و ينظر دائما إلى الأمام، يجب عليه أن يمرّ إلى مرحلة التناسي و النسيان لكن هذا لا ينفي قراره بأن يحكي لها كل شيء حتى تعذره وتعرف السّبب الحقيقي لتردّده.

    بعد أن تناول قهوته الصباحيّة بتباطئ متعمّد حتّى يعطيها الوقت الكافي لتنهي مشاويرها الصباحيّة و تتناول بدورها قهوتها، هو أعلم بعشقها لفنجان القهوة الصّباحي، بل هو متأكد بأن مزاجها لا يعتدل إلاّ بعد تناول القهوة،كم تمنّى أن تكون صحبة فنجانها أمام شاطئ البحر ليطيب نهارها و يروق. أخذ هاتفه بعد أن أتمّ شرب القهوة و ضغط على أزرار رقمها بكل هدوء وهو يبتسم، سيزفّها الخبر، سيفاجئها بقراره بعد أن اقتنع بضرورة التخلّي عن تبرّمه و خشيته من زيارة المدينة. سيرى ردّ فعلها و كيف ستتقبّل الخبر. رنّ الهاتف عدّة مرّات و لم تجب حتّى ظنّ أنها نسيته أو كتمت صوته، بعد أن أعاد المحاولة ثانية أجابت و كأنها تتثاءب أو كأنّها قامت لتوّها من الفراش أو شيء يشبه هذا، قالت:

    - صباح النّور... كيف الحال ؟

    - صباح الخير... أنا بصحّة جيّدة، أتمنى أن تكوني كذلك ، هل تناولت قهوتك هذا الصّباح؟

    - لا لم أتناول قهوتي بعد، أنا لا زلت في فراشي، أشعر بتعب شديد لذلك لم أنهض بعد فمن يناولني قهوتي يا سيّدي؟

    - قد أكون أنا لو كنت قريبا... منك، آسف فالمسافة تقف حاجزا أمامي، إذا أعيد صياغة التحيّة و لتكن صباح القهوة و الورد.

    - لا تأسف، أعرف ظلم المسافات، لو كنت قريبا منّي لزال التّعب و تناولنا قهوتنا غير بعيد من هنا، حتما سيكون فنجان القهوة ألذّّ و نكهته أرفع...إمْمممم ما الجديد ؟

    - لا أخفيك، بعد الكثير من التردّد، قرّرت أن أزورك في نهاية الأسبوع، ستصعب عليّ بعض الأشياء لكنّني قرّرت أن أتحدى ما بداخلي و... أزورك.

    - لماذا التردّد، لا أفهم هذا، هل يتطلب الأمر كل هذا التفكير؟ تكاد  تفسد مزاجي...

    - لا فائدة في التفسير الآن، ستفهمين فيما بعد، لا يتطلّب الأمر إلاّ بعض الوقت حتّى تعلمي سرّ نفوري السّابق من القدوم إليك، الآن انتهى كل تردّد ها أنا آت.

    - في الحقيقة فاجأتني، فاجأتني بترددك الذّي لا مبرّر له، المهمّ ستكون فرصة سعيدة في نهاية الأمر، كم انتظرت هذا منذ مدّة؟ سأنتظرك... سأنتظرك بكل الشّوق الذي يجب.

    - أكنت تنتظرين هذا؟

    - نعم... بعد عتبي عليك كنت أترقب قدومك لزيارتي فمرحبا بك في مدينتي، كم يسعدني هذا رغم تردّدك في قرارك...

    - لا أخفيك كان لعتبك منزلة في قلبي يا مولاتي و كان للعشق منزلة أخرى، عتبك حفّزّني، سآتي كما تريدين عاشقا و والها، أعرف أنّك قد لا تعلمين منزلة العشّاق في ليل قمريّ متصوّف، أنا أعلمه وأعلم ما لا يعلمه إلاّ القليل من العشّاق، هؤلاء أعلى مرتبة من الأنبياء، وتر واحد يجهّز ليلتهم ليذوبوا في لحن المناجاة و وطر واحد يصطفيهم من دون النّاس ليحلّقوا عاليا و يصيروا على باب المعراج. إنّ موتي وَلَهََا و كذلك حياتي ليس بيدي، ما كنت و لازلت أملكه بيدي هو هذا الجسد الذي أفناه الوله وهو قرباني و عطائي،هذا ما أستطيعه و قد لا يستطيعه الآخرون، قد تكونين من الآخرين، قد يطاوعني قلبي فاعتبرك هكذا فلا تغضبي، سآتي رغم وجعي المبرح كالطّفل إلى ثدي أمّه، سآتي كما تريدين، عاشقا و محبّا و مريدا و ميّتا و حيّا، فانتظري هذا القدوم يا سيّدتي بلا الشكّ و بكلّ يقين،لعلمك سأقاتل وحدي جراحي القديمة من أجل هذا اللقاء و سأنتصر....

    - مولاي ما أسعدني بهذا رغم ما شاب كلامك من غموض سيكون لي كامل الحقّ لمعرفته و كشف أسراره، فأنا الحبيبة و الرفيقة و العشيقة و أنا القمر الذي يطل عليك شاهرا ضوئه ومعلنا ضلوعه في كشف مستور العشّاق، حتى ما كان قديما و عفى عليه الزّمن... الآن دعنا من الوله و من جنون العشّاق و الحكايات القديمة، متى ستأتي بالضبط؟

    - سآتي في نهاية الأسبوع القادم ، أرى أنّه الوقت الأنسب للزّيارة، أكون خاليا من كل ارتباط مهني كذلك أنت.

    - نعم، إن كان هكذا فأنا بدوري أراه وقتا مناسبا، مرّة أخرى مرحبا بك زائرا و حبيبا، سأكون في انتظارك، العفو أجدني مرغمة لأغادرك سأقوم لإحضار قهوتي لأنني أشعر بحاجتي إليها، دمت بخير.

    - تسلمين حبيبتي و دمت زهرة بستاني.

    قطع مكالمته و قد تأكد من أنه قرّر قطعا زيارتها و أنه بدأ يتجاوز موانعه بإصراره و رغبته في أن لا يعكّر صفو الزيارة . لم يفكّر في أن يحمل معه أيّ شيء كهديّة مثلا، فقد كان فكره منصبّا حول الزيارة و عن الحاجز النفسي الذي بدأ يتخطاه بشيء من الصّعوبة، بدأ يفكر في المدينة و كيف سيجدها بعد طول هذه الغيبة و هل ستفرض نواميسها عليه؟ وهل ستعكر الذكريات القديمة صفو اللقاء، هذه أسئلة ظلّت تخامره رغم محاولة الهروب من هذا الإحساس الذي يكبّله.

    دقّت ساعة الحقيقة عندما حلّ الموعد، هو يوم سبت ربيعي بكل المقاييس، بل يميل أكثر إلى يوم قائظ و أشبه بيوم صيفي.أستعد كما يجب للسّفرة فقد حاول أن يتخلّص من بعض الأفكار السّوداء التي لم تفارقه، ففي هذا اليوم بالذّات لا يجب أن يظهر في سحنة باهتة أمامها قي أوّل زيارة لها، وهو في الطّريق إليها أغمض عينيه فكل منعرج في الطّريق و كل محطة استراحة أو تزويد بالبنزين تذكره و تعيد له ما لا يريحه، لذلك أغمض عينيه هروبا و تجنّبا لما يزعجه و يثير فيه ذكريات أليمة. لحسن حظه أن برنامجا إذاعيا شدّه بحسن طرحه لموضوع يتعلّق بمسائل تهمّ الأحداث السياسية و الإحتكار التجاري بالبلاد ثم أن مرافقه خفّف عنه ثقل السفر بكسره للصّمت و بتعاليقه المصيبة و الغير المصيبة في بعض الأحيان،شعر أنّه يحتاج أيّ شيء حتّى الثرثرة فقد أصبحت ذات جدوى أحيانا خاصة في مثل حالته.

    عندما أصبح على مشارف المدينة و على بعد بعض أميال تذكّر أنه يجب أن ينبّهها لوصوله، هكذا كان اتّفاقهما منذ الأمس. أشار طالبا تخفيض صوت مذياع السيّارة خاصّة و أن حصّة الحوار الإذاعي انتهت منذ فترة و أزعجه نشاز الاختيار الموسيقي الذي أعقب البرنامج. عندما رنّ جرس هاتفه أجابته بسرعة و كأنّها كانت تنتظر المكالمة، حتما هي أعلم منه بالمسافة و كم تتطلّب من الوقت الكافي للوصول خاصّة و أنّه هاتفها معلما إيّاها بأنّه في الطّريق إليها منذ بداية السّفرة.أعلمها أنّه في تقديره يكون وصوله لوسط المدينة قبل نصف ساعة على أقصى تقدير، عندما أعلمها أجابت أنها في الطّريق للقائه في المكان الموعود.

    ينزل من السيّارة في وسط المدينة و في وقته المقدّر، يلتفت يمنة و يسرة علّه يراها قادمة، نظر في كل الاتجاهات " لم تأت بعد ؟ " هكذا تساءل بعد أن تفقّد ساعته، كان يريد أن يراها قبل أن تراه لعلّه يحدّد تقريبا اتجاه سكناها رغم أنه لا يعرف المدينة جيّدا خاصّة أنهجها و أحياءها الجديدة، شعر بضيق طارئ قد يكون مردّه تأخّرها المفاجئ فقد كان يعتقد أنّها ستصل قبله إلى المكان أو سيصلان في ذات اللّحظة، يراقب كلّ الاتّجاهات مجدّدا ثم يقرّر أن يقف في مكان تسهل رؤيته فيه حتى لا تبحث عنه و تجده بسهولة و كأنّه استسلم و لم يعد يهمّ أن يراها قبل أن تراه. بينما كان يستعدّ لصعود درج البناية التي يقف أمامها لكي يظهر لها بشكل واضح إذ بيد تشدّ أصابعه برفق و دفء، إلتفت على يساره فوجدها واقفة بجانبه متأخرة بقليل عن كتفه الأيسر، في الحقيقة لم تفاجئه فدفء يدها و ارتعاش أصابعها و ملمس كفّها الطريّ دلّ عليها. قالت عندما التفت إليها مبتسما و همّ أن يقبّلها: نحن في الطريق العام و وسط المدينة " تحيّة عسكريّة " تكون كافية، قال: لا...حتّى و أن كنت في ثكنة ستكون "قبلة عسكرية" على الأقلّ فلا أحد يعرفني في هذه المدينة، في مثل حالتي تصبح الغربة نعمة. ضحكت ثم قالت: أنا لا أعرف القبل العسكريّة فقط أعرف التحيّة، قال: لن يفوتك شيء ستعرفينها الآن ثم ضحك، و بإصرار غير معهود فيه يرجع لكونه غريبا عن المدينة أو لشوقه لها قبّلها قبلة جريئة أولى و ثانية، لم يكن ذلك كافيا لكنه خيّر أن يكتفي بذلك تجنّبا لحرج يسبّبه لها وهي أصيلة تلك المدينة، نظرت في عينيه مبتسمة و قائلة: مرحبا بك مجدّدا، إمّْممم... الآن فقط عرفت كيف تكون القبلة العسكريّة فكيف إن لم تكن كذلك ؟ أجاب مستظرفا تساؤلها و ضاحكا و مازحا في نفس الوقت: لا تتعجّلي ستعرفينها في الإبّان، فقط قليل من الصّبر فلن يطول انتظارك، قالت وهي تحسّ بالخجل: و الله ظلمتني، أنا لا اقصد هذا الذي فكّرت فيه، قال : لا تجزعي حبيبتي فهذا إن كان فهو ظلم جميل، لك أن تظلميني بدورك ظلما جميلا إن أردت و لن أشكو هذا إطلاقا هذا عهد عليّ. نظرت في عينيه و مسكته من يده و قالت لن نبقى هنا فالحركة الدائبة و مرور السيّارات يفسد علينا صفو اللّقاء أعرف أنك لا ترتاح للاكتظاظ لذلك خيّرت مكانا غير بعيد من هنا لكنّني أجزم أنّه سيعجبك و يطيب لك. أجاب قائلا: أنا لا أعرف المدينة جيّدا فلك أن تقرري ما تريدين و عليّ الطّاعة و الامتثال.

    بعد قليل من الوقت وصلا إلى مقهى سياحي بنزل يقع قبالة شارع طويل منحدر يشرف في نهايته على شاطئ البحر الذي لا يبعد كثيرا مشيا على الأقدام، صعدا أدراج مبنى المقهى و اختارت مكانا في الطابق الأوّل يشرف على شرفة بلّورية داكنة حيث تستطيع أن ترى حركة الشّارع دون أن يراك أحد من الخارج كما يمكن أن تشاهد عمق البحر و تتمتّع بزرقته. عندما جلسا وجها لوجه و ضعت حقيبتها اليدويّة جانبا بعد أن أخرجت منها الهاتف و علبة السجائر و الولاّعة الغازية ثم قالت: أنا متأكدة أن المكان سيعجبك، صرت أعرف جيّدا ميولك و حبّك للأماكن الغير صاخبة، هل كانت السّفرة متعبة؟ قال: لم تكن متعبة بدنيا ثم أرجوك لا تذكريني بالسّفرة المهمّ أنني الآن معك، فعلا أرى أن هذا المكان رائع و جميل و ذو توضيب مرفّه، طبعا لقد أحسنت الاختيار و أخرجتنا من ضوضاء وسط المدينة المرهق. قالت بعد أن لاحظت ارتياحه: هذا مكان آتيه كلّما شعرت بضيق و في بعض الأحيان اصطحب صديقتي التّي حدثتك عنها في العديد من المرّات لكي نتناول قهوة في هذا المكان الهادئ، لذلك خيّرته لنكون في راحة. أشارت للنّادل بالقدوم ليرى طلباتنا قائلة: أعتقد أن مشروبا منبّها و منشّطا يصلح الآن.

    نظر في وجهها و في عمق عينيها، كانت مشرقة و عبقة كالورد الصباحيّ، فتورّد خدّيها و إشراق وجهها و حدّة نظراتها مع ما يصاحبها من الذّبول جعل منها أميرة جديدة على قلبه، اكتشف أن العديد من الأشياء تبدّلت فيها حتى لباسها، عادة لم يكن يراها إلاّ في لباس عادي يميل إلى الكلاسيكيّة و الاحتشام قد يكون هذا ما يفرضه ضرورة العمل أو غير ذلك، لكن في هذا اليوم، ها هي ترتدي سروال "دجينز" يكشف أسفل ساقيها اللّذان يظهران ببياضهما و اكتنازهما كمنحوت مرمر، يعلو جسدها قميص خفيف الزركشة و شفّاف، يميل الى لون "الدجينز" و من تحته لباس قطني أبيض يكشف على أعلى صدرها و يظهر تضاريس جسدها المغرية فتظهر ككتلة من الجمال المتناسق الأخّاذ، وكانت تنتعل حذاءََ شبه رياضي منبسط على غير عادتها أظهر جانبا من جمال أسفل السّاقين المصقولتين كبناء نحّاة بارع ، كما أن تسريحة شعرها الجديدة التي تتماشى و لباسها جعل مظهرها يتبدّل بشكل لم يكن يتصوّره لكنّه راق له و هذا ما جعله يدقّق النّظر فيها بكل إعجاب و ودّ.

    لاحظت دون أن تشعره بذلك اهتمامه لأوّل مرّة بشكلها و مظهرها الخارجي خاصّة و أنّه لم يكن يهتم بهذا سابقا،كان يهتمّ بعينيها و تفاصيل أخرى يحدّثها عنها كلما سنح الوقت للتغزّل، قد يكون هذا الاهتمام المستجدّ أحرجها قليلا و أربكها وهذا ما جعلها تتلعثم في كلامها و قد تكون تساءلت في داخلها لماذا هذه المرّة بالذّات يهتمّ بشكلي و مظهري دون أن يهتمّ كعادته بما كان يجذبه سابقا؟ لم يطل صبرها مع ازدياد ارتباكها و رغبتها في معرفة ما يدور في ذهنه الآن، هي دائما هكذا ينفذ صبرها مع كل رغبة في معرفة أيّ شيء يتعلّق بها، قطعت حديثها فجأة بعد أن شعرت أنه لا يشاركها الحديث و أن اهتمامه ينصبّ في اتجاه آخر رغم أنّ الموضوع الذي حدّثته فيه كان مركز نقاش طويل في السّابق. سألته وهي تريد أن تستدرجه لمعرفة ما يجول بخاطره: هل أعجبك المكان أم أنّني لم أوفق في اختياري؟ في الحقيقة لم يكن هذا سؤالها الجوهري بل كان التفافا على السؤال الذي تريد بسطه عليه " فيما تفكّر أيّها الرّجل المتيّم؟ ". أجابها بعد فهم أنّها تستفزّه و تستدرجه لسؤال آخر: المكان رائع و جميل لكن كان جميلا بك و بحضورك، أنت أضفت له رونقا و بهجة، لا أتصوّره هكذا بدونك، أنت زهرة المكان... قطعت كلامه قائلة: إذا لماذا يطول صمتك كنت أشكو استئثارك بالحديث فأصبحت أشكو صمتك؟ قال: كان لقائي بك في هذه المدينة صعبا في بدايته و كلّفني الكثير من التردّد و الخوف لأسباب أنت لا تعرفينها، لكن حاليا ندمت على ما كان منّي لولا هذا التبرير، خسرت الكثير من الوقت كان عليّ أن آتي من قبل، هل تعلمين أنّني وجدتك اليوم أجمل من أيّ وقت مضى؟ لا أدري إن كان هذا يعني أنك لم تكوني سابقا على هذا القدر من الحسن و الجمال، لكنني أصرّ أنك اليوم سيّدة المكان و المدينة. ردّت بحدة: و الله لا أدري أأنت تمدحني أم لا؟ أيعني أنني لم أكن جميلة إلاّ هذا اليوم؟ شكرا على الإطراء على كلّ حال... قال لها: لا تسيء فهمي أنت أعلم بما في قلبي، لكنّني اليوم أراك في مستوى أعلى من.... لأقلْ من الرّقة و الحسن، ألا يرضيك هذا ؟ قالت: يرضيني يا سيّدي و يزيد قد أكون على مثل ما ذكرت من الإشراق كما تقول لأنني لم أكن مرهقة من السّفر، أنت اليوم تتحمّل تعبي و تريحني. قال هناك ما زادك حسنا هذا اليوم لكنني سأسكت حتّى لا أتورّط و تسيئي فهمي، قد تعلّمت من الأولى فقد أصبحت أخاف زلاّت اللّسان... قالت: لا عليك فأنت اليوم ضيفي و لا وقت للمحاسبات، قمْ، ها قد ارتحت قليلا و شربنا قهوتنا، قُمْ لأريك مكاني المفضّل أمام البحر هذا المكان الذي طالما حدّثتك منه وعنه في الهاتف و وصفته لك حتى كدت أثير غيرتك بل قُلْ غرت و كفى، تعالى...

    أخذته من يده كطفل صغير فأحسّ أنه لا يملك أيّ حق في المبادرة فالمضيّفة هي الحاكمة بأمرها، قالت بعد أن نظرت في الأفق: ألا يغريك هذا البحر الأزرق المترامي كما أغـراني؟ كان هذا البحر ملهمي وبيت صفائي و على هذا أزوره كل يوم فيحتفل بي و يرسل أمواجه على شاطئه لتركع عند قدميّ بأمر سلطانها البحر. قال: أنت على حقّ هو فعلا جميل لكن كفى غزلا قد تثيرين غيرتي من جديد لنتمشّى قليلا فهذا المكان السّياحي لا أعرفه سابقا ثم أن السّير على الأقدام يريحني. تشابكت أصابعهما و هما يسيران على قارعة الشّارع الطّويل في جولة مسائية يغلب عليها الطّقس الصّيفي الذي يميل للحرارة. قال بعد أن أحسّ بدفء أصابعها في يده: لقد أخرجتني من ورطة جفوتي للمدينة، من اليوم فصاعدا سآتي كلما هزّني الشوق إليك و كلّما ناداني هذا الحنين فلا يعقل أن تتباعد المواعيد و اللّقاءات كلّ هذا الوقت كما كانت، نحن نسرق الوقت كي لا يسرقنا، لحظات السّعادة هي التي تحسب في أعمارنا و هي ممكنة و بين يدينا، حرام أن لا أراك و أن لا لأبحر في سحر عينيك، سيكون حسابي عسيرا أمام آلهة الحبّ لو وُجِدت في يوم مّا. قالت بعد أن ضغطت على أصابعه و وضعت ذراعها تحت ذراعه: لم أكن أدري أنّ الوقت يسرقنا و أننا قد نكون تحت طائلة مقاضاة  آلهة الحبّ، كان تباعدنا يثير شوقنا و يلهب حرارة كلّ لقاء بيننا، أيُعقل أن يكون للبعاد لذّة؟ فنحن نبات و نصبح كل يوم على شوق جديد، على نار جديدة يندر أن تراها عند المحبّين من أمثالنا. تعالى سنأكل في هذا المطعم الصغير، يوجد به شرفة عالية تطلّ على كامل الشّاطئ و أطراف المدينة و سواحلها، سنأكل هناك و تروي لي ما جعلك تنفر المدينة في أوّل الأمر فلي رغبة جامحة لمعرفة بعض التفاصيل، ستروي هذا ثم... أتمنّى أن تدفن هذه الذكريات السيئة التي لمّحت إليها في رمال هذا الشاطئ لتحملها الأمواج إلى بعيد فالبحر وحده القادر على كنس الذكريات الحزينة...هههه، هذه مزيّة البحر الأخرى التي قد لا تعرفها.

    في هذا المطعم الشّبه خالي من الحرفاء جلسا وجها لوجه كان الموقع رائعا كما صوّرته له وبعد أن ناولهما الجرسون طلبهما من أكل و شرب بدأ بسرد ما وعدها به من حكايته القديمة، كانت تستمع إليه بانتباه شديد و عندما ينقطع على الأكل تناوله الطعام بيدها و تذكره بضرورة أن يتمّ وجبته،عندما أتمّ حديثه الذي لم تقاطعه فيه إلا قليلا ، لاحظت أن تقاسيم وجهه تبدّلت الى الإنقباض و المرارة المكتومة، قالت: ألا زلت تحبّها؟ قال بكل صرامة: لا... أبدا فقد خرجت من قلبي منذ سنين، الغريب في الأمر أنني عجبت لأمري كيف أحببتها؟ ليس جلدا لذاتي بل لأنّي علمت أنّني أعطيت الكثير في غير محلّه، إيه... في بعض الأحيان أقول أنني كنت محظوظا في هذه النهاية، فليست كلّ النّهايات الحزينة سيئة، فأنت لا تعلم إلاّ بعد سنين... قالت: ألم تراجعك أو تعتذر؟ قال: نعم حصل هذا لكن وقت الإعتذار فات و كما قلت وجدتها خارج القلب و أنا لا أريد أن أضحك على قلبي أو أخادعه. قالت: إذا ما الذي يؤلمك ؟ قال: بعض التفاصيل فقط هي التي تؤلمني، أن تشعر بالغدر و الوشايات الظالمة هو ما يحزّ في القلب، ما عدي ذلك فقد زال نهائيا. مسح جبينه كمن يريد التخلّص مما كان يفكر فيه و قال لها: لنتمتّع بيومنا قبل أن يمرّ فنحن لم نتواعد للحديث عما مضى سأدفن هذا في شاطئ بحركم ليحمله الموج إلى الأعماق.

    كان الوقت يمرّ بسرعة كانا يعتقدان أنهما يسرقان الوقت، يوم يمرّ كلحظة حلم جميل، كنسمة صيف، كظلّ غيمة، مرّ اليوم دون أن ينتبها لذلك و دون يشبعا رغبتهما في أن يظلاّ منفردين لتخمد نيران الشّوق أو تخبو قليلا، مرّ اليوم ولم يحضنها بين ذراعيه و لم يداعب خدّها و لم يلملم شعرها، ما رسخ في ذهنه قد لا يكفي، قبلتان حارّتان، قهوة صباحية، فطور و جولة مسائية على شاطئ البحر و في المنطقة السياحية، زهرة تتفتّح من جديد في شكل جديد و بمظهر مغاير لما يعرفه من قبل. يوم ملئ بالتردّد و الخوف و الشّوق و متعة اللّقاء و رؤية الحبيبة، أصابعها التي داعبت أصابعه ذراعها تحت ذراعه، همسها و ضحكاتها المتتالية ، سعادتها وهي ترى ضيفها بمدينتها، مرّ يوم ملئ بالأحاسيس و المشاعر الجيّاشة و الصّادقة. نظر في السّاعة كما نظرت هي، التقت عيناهما من جديد، قالت: أراك تنظر في السّاعة هل...؟ قال:أي نعم، يحزنني هذا مولاتي لكن يجب أن أعود. التصقت بجنبه و أدخلت يدها تحت جمازته بأعلى خصره و قالت: شعرت بأن البرد يغزو جسدي رغم هذا الحَرّ، ليتك تبقى معي ليوم آخر قد يكفي هذا. قال لها وهو يحاول أن يتماسك: قلت لك أنّني لن أغيب طويلا من هنا وصاعدا، قد اكتشف أنّك تصبحين أجمل هنا أكثر من أيّ مكان آخر. ضحكت قائلة: لن أسيئ فهمك هذه المرّة يا عنيد، لكن قبل أن تعود لي رجاء لو تنفّذه يكون رائعا و يسعدني كثيرا. قال بصوت يغلب عليه الجدّ: أنت تعرفين أنّني لا أرفض لك طلبا ما استطعت، ما هو هذا الرّجاء؟ فكّرت قليلا و تردّدت و كأنّها تخاف أن تغضبه وتفسد عليه بعد أن غمرته السّعادة طيلة هذا اليوم، كان يجب أن تفكّر قبل أن تتكلم...

                                                            يُـتْـبـعُ...

    التعليقات
    8 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة