• الرئيسية
  • قصة قصيرة
  • ادب عربى وعالمى
  • رجيم وصحة
  • سياسة الخصوصية
  • تواصل معنا
  • زرقـة بـحـر...و مـوعـد (27)


    أزيز محرّك القطار لا ينقطع، بعض دقائق و ينطلق في اتجاه العودة، همْهَمَ في غضب مكتوم قائلا: " لتنتظرْ هذه الآلة الجهنميّة السيّارة التي لا تفهم مواعيد الأحبّة و لتكفّ عن التنبيه المزعج"..." بعد عشر دقائق ينطلق القطار، رحلة سعيدة خطوطنا في خدمتكم" هكذا كانت تردّد عاملة الاستقبال في بهو المحطة، لا زال هناك متّسع من الوقت كي لا يغادرها، بعض دقائق تكون كافية ليمسح العرق الخفيف الذي تصبّب من جبينها بعد أن أحمرّ وجهها لمّا همس في أذنها، ترى هل ضايقها كلامه أم فاجأها بعرض جريء جعلها تخجل و تتصبّب عرقا؟ هل أسعدها بدعوة لم تكن تنتظرها ؟ تورّد خدّها و رمى بحمرته الخفيفة على وجنتيها، تتشابك الحُمرة و سماحة الوجه يتمازج الأحمر بالأبيض ثم بالألوان جميعا، تحوّلتْ إلى لون قزحيّ جذّاب، لم يحدث أن رأى امرأة من قبل في شكل و لون قزحيّ، يأخذ منديلا ورقيا و يناولها إيّاه، تسأله لماذا و ما الدّاعي، لم تكن تعلم أن عرقا خفيفا يتصبّب من جبينها، وحده من كان يعلم، تأخذ المنديل من يده و تمسح به على جبينها مثلما أشار لها تماما بنفس الحركة و نفس المكان،تكتشف أنّ المنديل تبللّ قليلا، لأوّل مرّة يأخذها خجل طارئ و تصبّب هكذا عرقا دون أن تشعر، تبتسم و تقول له: أعتقد أن الوقت حان للسّفر، انتبه لنفسك و ضع التذكرة في جيبك حتّى لا تضيع، سوف لن تشعر بالمسافة وأنت تطالع الصحيفة، في الطريق لا تنسى أن تتمتّع بجمال بساتين الوطن القبلي المثمرة و غابات الزيتون،أنا أعلم ميْلكَ للخُضْرة و الغابات وهو ما لا ينقصنا. كانت توصيه خيرا بنفسه كما توصي الأم ابنها الصّغير الذي يسافر لأول مرة وحيدا. لم يستطع كبح رغبة الضحك وهي توصيه هكذا رغم المرارة التي أحسّ بها وهو يستعدّ لتركها و العودة إلى مدينته، أشار لها أنّه سيفعل كما أمرت، و أن العودة حانت كما أشعرته.
        انتظر قليلا أيّها القطار، لا تفسد اللّقاء، أنت و المساء حليفان يداهمانه و يعجّلان عودته، لا زال هناك متّسع من الوقت، بعض دقائق و يرحل عنها حاملا معه أحلامه و ارتعاش أصابعها و نكهة عطرها، كم هو مزعج هذا الأزيز و صوت المنبّه العالي، لا يمكن للساعة أن ترجع إلى الوراء ، الوقت يداهمه حقّا و ساقه تأبه مغادرة المكان، تفتح أبواب القطار لصعود المسافرين، صوت عاملة الاستقبال في أبواق المحطة يدعو الركّاب للصّعود في القطار بهدوء لأنّ الأماكن لازالت شاغرة، يلتفت إليها في نظرة تكاد تكون الأخيرة يضغط على أصابعها بقوّة دون أن يشعر قد يكون آلمها دون قصد لكنّها تفهّت حركته و حالته المبعثرة لذلك كانت توصيه حتى تطمئنّ عليه، في مثل هذه الحالات قد تكون هي أكثر جرأة منه، لم يزعجها السّفر عندما زارته في مدينته، بل أنها كانت أكثر سعادة وهي تغادره، تعسا لهذه اللحظات كم هي حلوة و مريرة ، مديدة و قصيرة و خفيفة و ثقيلة، وضع يده اليمنى على كتفها بينها أمسك بيده اليسرى جريدته، تماسك و نظر في عينيها و قال لها: أتركك في هذه اللحظة فقد وجدت شجاعتي لأفعلها، أتركك في سلام رغم أن عيونك تشدّني بعنف إليك، تعلمين أن سبب بليّتي هما، ويْحِي  من هذه العيون، سأغادر الآن دون تردّد فأنا في قمّة العزم و الثّبات. كانت صامتة و لم تنبس ببنت شفة كانت تريد أن تشجّعه و تخفّف عنه ليغادر، قبّلها قبلة سريعة دون إمعان، قبّلها و كأنّه نسي قبلته الحارّة الأولى، قُبلة واحدة كانت كافية ليغادر المكان غربا نحو القطار السّريع، صعد القطار دون أن يلتفت و عندما أخذ مكانه يمينا في العربة فتح النّافدة و أطلّ برأسه ليحييها من بعيد لكنّه وجد المكان خاليا، قد تكون غادرت بدورها، قد تكون فرّت و ثقلت عليها اللّحظة أو أنّها لم تنتظر منه تحيّة أخرى بعد أن عزم على المغادرة بكل ذلك الإصرار.
      تراجع إلى الوراء بعد أن أجال نظره في أركان المحطّة و لم يرها، تمتم قائلا:" قد تكون غادرت المكان قبل أن أصعد القطار" . جلس على الكرسيّ و اتّكأ على المسند الجانبي كان المقعد المحاذي شاغرا، رمى الصّحيفة عليه و أغمض عينيه ثمّ حكّ جبينه و ضغط بقوّة على ناظريه، لم يسعفه الوقت ليأخذ معه قهوة سريعة ليسكّن هذا الألم الخفيف بجبينه و حالة الدّوار التي يشعر بها.      
     يقطع القطار جوف الأرض بعجلاته الحديديّة و يبتعد بسرعة عجيبة كأنه البرق، كأنّ سائقه استكثر عليه بقاءه كل هذا اليوم في هذه المدينة إلي جانبها، لأوّل مرّة يشعر بامتعاض شديد من هذه الآلة رغم حبّه لسفرات القطار التي يحبّذها على غيرها من السّفرات ، يلتفت إلى الوراء لا يجد سوى وجوه ركّاب غرباء ، كلّهم يرغبون في الوصول بأسرع وقت ممكن إلى مدنهم المقصودة،  يخيّم صمت قاتل على المكان ، لم يعد يسمع إلا زعقات منبّه القطار بين الحين و الآخر و اصدام عجلاته بالخطوط الحديدية و الصّرير الذي يحدث في كل منعرج أو عند الفرملة لنزول أو طلوع المسافرين، تألّم و شعر بوحشة غريبة، لم يكن مستعدّا في قرارة نفسه للمغادرة، ظنّ أن اليوم سيكون كافيا و أكثر لكي يطفئ لهب الشّوق إليها، كما ظنّ أنّ غربته عن المدينة ستدفعه أيضا للعودة دون تلكّؤ شعر أنه ترك روحه و لبّه هناك، كأنّه كان في حلم ملائكي سعيد، ترى لماذا انسحبت بكل هذه السّرعة عندما تركها بالمحطّة وهم بالصعود للقطار؟ أكانت تسهّل عليه لحظة الافتراق لأنها تعلم أنّها صعبت عليه و ثقلت لدرجة تهدّج صوته وهو يحدّثها أو حتى عندما همس في أذنها؟ هل كان بهذا الهمس يريد إخفاء حقيقة مشاعره و عجزه عن تركها في تلك المدينة بعد هذا اليوم المليء بالأحداث السّعيدة و ببعض المصارحات الصادمة و المزعزعة، هل كانت بدورها تخفي وهنا اعتراها وهي تقف معه لحظات قبل انطلاق القطار...؟
      ترفّق أيّها القطار الجامح الذي لا يعبأ بقلوب الأحبّة فهو لم يأخذ معه إلا بقايا رائحة عطرها الخفيف و المغري و ورسم أخير لعينيها وهي تبتسم لتهوّن عليه المغادرة، تبّا لهذه الذّاكرة التي يعتريها ضباب نسيان ملامحها كلما غابت عنه، لم يرتسم بالذّاكرة إلاّ سحر عينيها المتوهّجتين و تقوّس رموشها انحدار حاجبيها، طالما شكاها هذا النّسيان و طالما ضحكت لسماع هذا دون أن تصدّق ما يحدث له عند محاولة تذكّر ملامحها كلما غابت عنه لمدّة حتّى و إن كانت قصيرة، قد تُعْفه ذاكرته السّمعية العالية و تخفّف عنه فهو لن ينسى أبدا ضحكتها و صوتها المنغّم السّحري، و وشوشتها و حتى تنهّدها، هي الأذن التّي تنتقي الأجمل من الأصوات لذلك يطربه الصّوت الحسن و بناء الكلمة في حلقها فيغمض عينيه ليُفْـرد السّمع بهذه المتعة.
       ترفّق أيّها القطار فقد قصمت المسافة واختزلتها و قطعت البراري كأنّك تقتصّ منه، سيتصفّح جريدته الملقاة على الكرسيّ الشّاغر بجانبه لعلّه ينسى و يتجاوز وهج الفراق و غصّة المغادرة، يفتح الصحيفة، ينتابه شرود، لم يكن في الحقيقة يرى شيئا أو لم يكن مستعدا للقراءة أصلا، ما هي إلاّ حروف صحيفة ترقص و تصطفّ كأسراب النّمل الأسود في ناظره دون أن يكون لها معنى، فقط كانت العناوين الكبيرة محلّ تصفّح سريع و عاجل، هو يعرف أنه يريد الهروب من شيء مّا لا يستطيع و يعجز عن نسيانه، هل احتفظ بما يسليه في غيابها و حضورها المتواتر في مخيّلته بين الحين و الآخر؟ لا شيء سوى القليل من رائحة عطرها و همساتها و عتابها و ما بقي من مشهد صدرها المتوهّج النّافر، لله ما أجمل هذا ؟ يبتسم لما يتذكر هذه الصّورة، كأنها أمامه الآن يغازلها و يداعب أصابعها، تسعده اللحظة و يتيه في خيالات و أفق جميل أخّاذ، لذلك كان يصرّ أن يأخذ قسطه من التمعّن في قسمات وجهها ورسومه الآسرة حتى إذا أتته حالة النسيان و ضبابية ملامحها بعد مدّة يتذكر أنه كان له من الوقت ما كفى ليعيد رسم  اللوحة الفنيّة بشكلها الجميل و إعادة عرضها على جدار ذاكرته.
      لم يترفّق القطار في سيره كما كان يودّ ولم يقرأ جريدته و قطع مسافة الرّجوع دون أن ينتبه حتىّ إلى حدائق القوارص و الكروم كما طلبت منه حبيبته عند المغادرة، ليس له ذنب في هذا الذي حدث فقد كانت كلّ المشاهد ضبابيّة ما عدى صورتها ، كبّلته أحداث اليوم كلّها  منذ أن قابلها حتى لحظة الرّجوع للمدينة وتوالت المشاهد كشريط فِلْم ملوّن، تفاعل مع كل مشهد على حده، لذلك تراه يبتسم ابتسامة مخفية أو يصمت أو يستغرق في التفكير كأنّه يعيد رسم الحدث. يعلن مرافق سائق القطار في مضخم صوت بوق العربة أن الرّحلة أشرفت على نهايتها و أنّه بعد بضْع دقائق سيصل القطار محطّته الأخيرة، يلقي بالجريدة في سلة مهملات العربة، و يستعدّ للنزول بعد أن أحس بفرملة القطار القوية و الصّرير المزعج للكابح، يقوم من مقعده و يتجه نحو الباب ليتدرج في النزول تاركا المجال لأصحاب الحقائب من المسافرين، أضواء المحطّة البيضاوية تنير كافة الأرجاء كان وصوله للمدينة مع الغروب، يتلمّس جيبه و يسحب هاتفه المحمول، يرن جرس الهاتف ليكلمها بمكالمة مختصرة جدّا : "مساء النّور حبيبتي، وصلت الآن بخير، لا أدري كيف كانت الرّحلة لكن المهمّ أنّني وصلت بخير، سأهاتفك غدا صباحا إن لم يكن هذه الليلة، سلامي" ردّت بهدوئها المعتاد: " حمدا على السلامة وليلة سعيدة  بأحلام لذيذة...عدْ إلى البيت و لا تطل سهرك قد تكون متعبا من جرّاء السفر" .
      كان متعبا منهكا بحقّ، فهو لم ينم ليلته البارحة كما يجب أن ينام لذلك خيّر الرّجوع للبيت مباشرة ليأخذ قسطا من النّوم مباشرة بعد تناول العشاء. لم ينتظر طويلا حتى وصل للبيت كما كان منتظرا و بعد أن أتمّ الأكل ارتدى بدلة النّوم ثمّ توجه إلى فراشه شبه مغمض العينين من شدّة الحاجة إلى النّوم رغم أن وجهها و أشياءها الأخرى الجميلة لا زالت تطارده حتى وهو بين حالة الغفوة و النعاس.
      
     عِمْ صباحا حبيبي، عرفت البارحة أنك استسلمت لنوم عميق، لذلك لم أنتظر مكالمة ثانية بعد الساعة العاشرة ليلا، كنت أعلم أنك مرهق، ظهر هذا من علامات وجهك و أنت تغادر المدينة لتعود، أرى أنك اليوم على أحسن حال أو أتمنى هذا فقد أسعدتني أمس و فكّرت جيدا فيما قلته لي همسا، الحقيقة فاجأتني و أخجلتني حتى أنني لم أتفطّن  للعرق الذي تصبّب من جبيني لو لم تناولني المنديل ، أتعلم...؟ لم أتوقّع إطلاقا هذا المقترح، كنت جريئا على غير عادتك، هل أنت هكذا دوما تأتيك الجرأة من حيث لا أتوقّع ... ههههه، إمْممم ...على كلّ قل لي، كيف كان وقع زيارة الأمس على... قلبك ؟  هكذا استرسلت في حديثها و هي تهاتفه صباحا دون أن تترك له المجال ليردّ التحيّة حتّى، كما أنها فاجأته بمكالمة هاتفية باكرة على غير عادتها و كم أسعده هذا و قطع عليه حبل انتظار الموعد العادي. قال وهو يبتسم ابتسامته الخفيفة و كأنها تقف أمامه: صباح النّور مولاتي، أنت كذلك فاجأتني على غير عادتك بمكالمة صباحيّة خفّفت عني وطأ الانتظار،أشعر بأنّك سعيدة و هذا فعلا ما أرجوه لك، نعم قد نمت باكرا لكن خيالك و طيفك الحالم الملائكي لم يفارقني بين الغفوة و النّعاس، بعدها كان نومي عميقا إلى حدود الشروق. تسألينني كيف كان وقع الزّيارة على قلبي ؟ لقد سُعِدْتُ كثيرا وأنت تعلمين هذا جيّدا، حقيقة كان وقع الزّيارة على قلبي كوقع الفراشة على الزّهرة، لا الفراشة ارتوت من من رحيقها وانتشت بعبقها و لا الزّهرة أشبعت رغبتها في احتضان وعناق الفراشة لتستعير جمالا أكثر وأرقّ من أجنحتها،لا أدري من كان منّا الأسعد من الآخر قد نكون في نفس درجة السّعادة ، لكنه يتبيّن لي في بعض الأحيان أنّني كنت الأسعد، كان كلّ شيء يمرّ بسرعة لذلك لم أستطع ربط الأحداث و لم يكن الوقت كافيا لأجمع كل شتات سعادتي كي تكتمل كلّها في صدري لكنني شعرت أنّك لي و أنّنا عوضنا بعض الذي فاتنا، المهمّ أنك كنت رائعة و أنّني كنت سعيدا بلقاك ... سأزورك كلما سنحت الفرصة تأكدي من هذا حبيبتي، فقط أعلمك أن لي رغبة عارمة في سماع ردّك فيما عرضته عليك و نحن في بهو المحّطة، هل مازال يخجلك عرضي أم تجاوزتي، أسألك هل هو قيد النّظر أم ستفرجين عنه ؟ أنتظر ردّك حبيبتي و كلّي شوق و أمل في أن أسمع ما يسرّني،آه، ليتك تعرفين حرّ انتظاري...
                                                                     يـُتْـبَـعُ...                                            
    التعليقات
    8 التعليقات

    مدون بلوجر

    المشاركات الشائعة